للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا؛ ومعنى {أَلَمْ نَشْرَحْ:} شرحنا. الدليل على ذلك قوله في العطف: {وَوَضَعْنا،} {وَرَفَعْنا} فهذا عطف على التأويل لا على التنزيل؛ لأنه لو كان على التنزيل؛ لقال: ونضع ونرفع، فدل هذا على أن معنى: {أَلَمْ نَشْرَحْ:} قد شرحنا؛ لأن «لم» جحد، وفي الاستفهام طرف من الجحد، وإذا وقع جحد على جحد رجع إلى التحقيق. انتهى. قرطبي.

أقول؛ وبعبارة أوضح: لما دخلت همزة الاستفهام الإنكاري الإبطالي على (لم) صار إثباتا؛ لأن نفي النفي إثبات، وهو ما يسمى في علم الإعراب: التقرير. وهذا كثير في كتاب الله تعالى، مثل قوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ..}. إلخ، وقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ} وفي سورة (التين) آخرها، وفي أول سورة (الفيل)، وغير ذلك، ومن ذلك قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان-وهو الشاهد رقم [١١] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الوافر]

ألستم خير من ركب المطايا... وأندى العالمين بطون راح؟

ولهذا كان هذا البيت أمدح بيت قالته العرب! قيل: لما بلغ البيت عبد الملك كان متكئا، فاستوى جالسا فرحا. وقال: من مدحنا؛ فليمدحنا هكذا، وأعطى جريرا مئة من الإبل، وثمانية أرقاء من السبي، وجام فضة.

{وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ} أي: حططنا عنك، وغفرنا لك ذنبك، وهذا مثل قوله تعالى في أول سورة (الفتح): {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ}. وقيل: هو الخطأ، والسهو. وقيل:

ذنوب أمتك، فأضافها إليه لاشتغال قلبه بها. وقيل: المراد بذلك ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة حتى يبلغها؛ لأن الوزر في اللغة: الثقل تشبيها بوزر الجبل. وقيل: معناه: عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك؛ لو كان ذلك الوزر حاصلا، فسمى العصمة: وضعا مجازا، وقد بينت لك في سورة (الفتح)، وفي سورة (النساء) رقم [١٠٥] وغيرها: أن الرسل معصومون من مقارفة الجرائم، وأن ما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن اجتهاد، وعوتب عليه، كإذنه للمنافقين في التخلف عن الجهاد حين اعتذروا، وأخذه الفداء من أسرى بدر، وغير ذلك، وهي صغائر مغفورة لهم لهمهم بها، وتحسرهم على فعلها، فهي ثقيلة عندهم لشدة خوفهم، وقربهم من خالقهم، كما قيل:

حسنات الأبرار سيئات المقربين. وفي الكلام استعارة تمثيلية حيث شبه الذنوب بحمل ثقيل يرهق كاهل الإنسان، ويعجز عن حمله بطريق الاستعارة التمثيلية، وهذا كما ورد من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «إنّ المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يقع عليه، وإن الفاجر، والمنافق يرى ذنوبه كالذّبابة تطير فوق أنفه، فيقول فيها: هكذا».

{وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ:} قال مجاهد: يعني بالتأذين، وفيه يقول حسان-رضي الله عنه-: [الطويل]

أغرّ عليه للنبوة خاتم... من الله مشهود يلوح ويشهد

<<  <  ج: ص:  >  >>