السعة، والرغد في العيش، وجلب المنفعة. وهو ما ذكر في هذه السورة. ولما حقق الله لهم هذين الأمرين، وهما نعمتان عظيمتان؛ أمرهم بالعبودية، وأداء الشكر. وقيل: إنه تعالى لما كفاهم أمر الرحلتين؛ أمرهم أن يشتغلوا بعبادة رب هذا البيت.
هذا؛ والمراد بالبيت: الكعبة المعظمة، وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب البيت وجهان:
أحدهما: لأنه كانت لهم أوثان، فميز نفسه عنها. والثاني: لأنهم بالبيت شرفوا على سائر العرب، فذكّرهم ذلك تذكيرا لنعمته. انتهى. قرطبي.
{الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} أي: بعد جوع. {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} أي: بعد خوف. قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: وذلك بدعوة إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-في سورة (البقرة) رقم [١٢٦]: {رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ}. ومثلها في سورة (إبراهيم) رقم [٣٥]. وقال ابن زيد: كانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها من بعض، فأمنت قريش من ذلك لمكانها في الحرم، وقرأ قوله تعالى:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ} رقم [٥٧] من سورة (القصص). وقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} رقم [٦٧] من سورة (العنكبوت).
وقيل: إن هذا الإطعام هو: أنهم لما كذبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا عليهم، فقال:«اللهمّ اجعلها عليهم سنين كسني يوسف». فأجاب الله دعاءه، واشتد عليهم القحط. فقالوا: يا محمد! ادع الله لنا فإنا مؤمنون! فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخصبت البلاد، وأخصبت مكة بعد القحط، والجهد، فذلك قوله تعالى:{الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ..}. إلخ. هذا؛ ولا تنس الطباق بين {الشِّتاءِ} و (الصيف)، وبين (الجوع) و (الإطعام)، وبين (الأمن) و (الخوف)، وهو من المحسنات البديعية.
هذا؛ وأصل الخوف: انزعاج في الباطن، يحصل من توقع أمر مكروه يقع في المستقبل.
وأما التّخوّف فإنه يأتي بمعنى: التنقص. كما في قوله تعالى في سورة (النحل) رقم [٤٧]: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} يروى: أن الفاروق-رضي الله عنه-قال على المنبر: ما تقولون في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ؟} فسكتوا، فقام شيخ من هذيل. وقال: هذه لغتنا (التخوف) التنقص. قال: فهل تعرف العرب هذا في أشعارهم؟ قال نعم. قال شاعرنا أبو كبير الهذلي:[البسيط]
تخوّف الرّحل منها تامكا قردا... كما تخوّف عود النّبعة السّفن
فقال الفاروق-رضي الله عنه-: أيها الناس عليكم بديوانكم لا تضلوا! قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم. هذا؛ ويأتي الخوف بمعنى العلم، وبه قيل في قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [١٨٢]: {فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً... ،} وفيها أيضا رقم [٢٢٩]: {إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ}.