فيقال: إنك لا تدري ما أحدث بعدك». أخرجه مسلم، والترمذي. وهذا يثبت: أن السورة مدنية، واستدل الشافعي-رضي الله عنه-بهذا الحديث على أن البسملة آية من الفاتحة.
قال أبو حيان-رحمه الله تعالى-: وذكر في الكوثر ستة وعشرون قولا، والصحيح هو ما فسره به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: «هو نهر في الجنة، حافتاه من ذهب... إلخ». الحديث الأول. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-: الكوثر: الخير الكثير. وما ذهب إليه من أنه الخير الكثير جامع لأقوال المفسرين. فقد أعطي الرسول صلّى الله عليه وسلّم الفضائل الكثيرة العميمة، أعطي النبوة، والكتاب، والحكمة، والعلم، والشفاعة، والحوض المورود، والمقام المحمود، وكثرة الأتباع، والنصر على الأعداء، وكثرة الفتوحات؛ إلى غير ما هنالك من الخيرات، صلوات الله، وسلامه عليه.
وما أحسن قول القرطبي-رحمه الله تعالى-: ثم يجوز أن يسمى ذلك النهر، أو الحوض كوثرا، لكثرة الواردة والشاربة من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم هناك، ويسمى به لما فيه من الخير الكثير والماء الكثير. انتهى. وفي حوضه صلّى الله عليه وسلّم يقول الشاعر: [المنسرح]
يا صاحب الحوض من يدانيكا... وأنت حقا حبيب باريكا
وخذ هذا الحديث، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى المقبرة، فقال:
«وددت أنا قد رأينا إخواننا». قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: «أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد». قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟! قال:
«أرأيتم لو أنّ رجلا له خيل غرّ محجلة بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟». قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «فإنهم يأتون غرّا محجلين من آثار الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض».
رواه مسلم، وزاد غيره: «ألا ليذادنّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضالّ، فأناديهم: ألا هلمّ فيقال: إنهم قد بدّلوا بعدك! فأقول: سحقا! سحقا!». هذا؛ والكوثر من الرجال: السيد الكثير الخير. قال الكميت في مدح عبد الملك: [الطويل]
وأنت كثير يابن مروان طيّب... وكان أبوك ابن العقائل كوثرا
وقال ابن إسحاق: الكوثر: العظيم من الأمر، وذكر بيت لبيد: [الطويل]
وصاحب ملحوب فجعنا بفقده... وعند الرداع بيت آخر كوثرا
تنبيه: ذهب صاحب كتاب القوت، وغيره إلى أن حوض النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما هو بعد الصراط.
والصحيح: أن للنبي حوضين، وكلاهما يسمى كوثرا، والكوثر في كلام العرب: الخير الكثير، فحوض يكون قبل الصراط، وحوض بعد الصراط؛ لأن طرد المنافقين والفاسدين المفسدين يكون قبل الصراط، ولا يكون هذا الطرد بعد الصراط؛ لأنه لا ينجو من الصراط؛ إلا المؤمنون الذين فازوا برضا الله، ورضوانه، وآمنوا من سخطه، وغضبه، وأما المنافقون والفاسدون المفسدون؛ فلا وجود لهم بعد الصراط؛ لأنهم يسقطون في جهنم، وبئس المصير.