للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما يبكيك يا عم؟». قال: نعيت إليك نفسك. قال: «إنه لكما تقول». فعاش بعدها ستين يوما، ما رئي فيها ضاحكا مستبشرا.

وفي البخاري، وغيره عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: كان عمر-رضي الله عنه- يأذن لأهل بدر، ويأذن لي معهم. قال: فوجد بعضهم من ذلك، فقالوا: يأذن لهذا الفتى معنا، ومن أبنائنا من هو مثله، فقال لهم عمر: إنه من قد علمتم. قال: فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخرها فقالوا: أمر الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم إذا فتح عليه أن يستغفره، وأن يتوب إليه. فقال: ما تقول يابن عباس؟! قلت:

ليس كذلك، ولكن أخبر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم حضور أجله. فقال: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ..}. إلخ فذلك علامة موتك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ..}. إلخ فقال عمر-رضي الله عنه-: تلومونني عليه؟! وفي البخاري: فقال عمر-رضي الله عنه-: ما أعلم منها إلا ما تقول.

فإن قيل: فماذا يغفر للنبي صلّى الله عليه وسلّم حتى يؤمر بالاستغفار، وقد غفر الله له ما تقدم، وما تأخر من ذنبه؟ فالجواب: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في دعائه: «رب اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني، اللهمّ اغفر لي خطئي، وعمدي، وجهلي، وهزلي، وكلّ ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدّمت، وما أخّرت، وما أعلنت وما أسررت، أنت المقدم، وأنت المؤخر، إنك على كل شيء قدير». فكان صلّى الله عليه وسلّم يستقصر نفسه؛ لعظم ما أنعم الله به عليه. ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوبا. وقيل: الاستغفار تعبد يجب إتيانه، لا للمغفرة، بل تعبدا.

وقيل: ذلك تنبيه لأمته؛ لكيلا يأمنوا، ويتركوا الاستغفار.

{إِنَّهُ كانَ تَوّاباً} أي: على المسبحين، والمستغفرين. يتوب عليهم، ويرحمهم، ويقبل توبتهم، و (توّاب): كثير قبول التوبة من عباده، أو الرجاع على عباده بالرحمة، والمغفرة، فهو صيغة مبالغة، وتوبة العبد: رجوعه عن المعصية إلى الطاعة، وقرع باب ربه بالندم، والإنابة.

وانظر الاستغفار في الآية رقم [١٠] من سورة (نوح) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وشرح {كانَ} برقم [١٠] منها.

هذا؛ وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر من قول: «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله، وأتوب إليه». قالت: فقلت: يا رسول الله! أراك تكثر من قول:

(سبحان...) إلخ فقال: «خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول:

سبحان... إلخ». فقد رأيتها: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ..}. إلخ.

وقال ابن عمر-رضي الله عنهما-: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع، ثم نزلت:

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} من الآية رقم [٣] من سورة (المائدة) فعاش بعدها النبي صلّى الله عليه وسلّم ثمانين يوما، ثم نزلت آية الكلالة (آخر سورة النساء) فعاش بعدها خمسين يوما، ثم

<<  <  ج: ص:  >  >>