للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{إِلهِ النّاسِ} أي: معبودهم الذي لا رب لهم سواه. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-:

وإنما قال: {مَلِكِ النّاسِ (٢) إِلهِ النّاسِ؛} لأن في الناس ملوكا، فذكر: أنه ملكهم، وفي الناس من يعبد غيره، فذكر: أنه هو إلههم، ومعبودهم، وأنه هو الذي يجب أن يستعاذ به، ويلجأ إليه، دون الملوك والعظماء. انتهى.

هذا؛ وقال الصابوني: وترتيب السورة بهذا الشكل في منتهى الإبداع، وذلك؛ لأن الإنسان أولا يعرف: أن له ربا، لما يشاهده من أنواع التربية: (رب الناس) ثم إذا تأمل؛ عرف: أن هذا الرب متصرف في خلقه، غني عنهم، فهو الملك لهم: {مَلِكِ النّاسِ} ثم إذا زاد تأمله؛ عرف: أنه يستحق أن يعبد؛ لأنه لا عبادة إلا للغني عن كل ما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه.

{إِلهِ النّاسِ} وإنما كرر لفظ {النّاسِ} ثلاثا، ولم يكتف بالضمير، لإظهار شرفهم، وتعظيمهم، والاعتناء بشأنهم، كما حسن التكرار في قول عدي بن زيد العبادي-وهو الشاهد رقم [٨٨٧] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الخفيف]

لا أرى الموت يسبق الموت شيء... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا

ولا تنس ما في سورة (الواقعة) و (الحاقة) و (القارعة) من تكرار بعض الكلمات، وبعضها للتشريف، والتعظيم، وبعضها للتهويل، والتخويف.

{مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ} أي: قل: أعتصم برب الناس... من شر الوسواس الخناس؛ أي: الشيطان ذي الوسواس الموكل بالإنسان، فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يزين له الفواحش ولا يألوه جهدا في الفساد، والخبال، والمعصوم من عصمه الله. وفي كتب اللغة:

الوسوسة: حديث النفس. يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة، ووسواسا بالكسر. والوسواس بالفتح الاسم مثل الزلزال، والزلزال، وقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ} يريد إليهما، ويقال لهمس الصائد، والكلاب، وأصوات الحلي: وسواس. قال الأعشى من معلقته رقم [٤]: [البسيط]

تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت... كما استعان بريح عشرق زجل

{الْخَنّاسِ:} الكثير الخنس، وهو الرجوع، والخناس: الرجاع. وصف الشيطان بهاتين الصفتين؛ لأنه يوسوس لقرينه، ويزين له المعاصي، والمنكرات، فإذا ذكر العبد ربه؛ خنس؛ أي: تأخر، فإذا غفل عن ذكر الله؛ عاد إليه. قال قتادة-رضي الله عنه-: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب. وقيل: كخرطوم الخنزير في صدر الإنسان، فإذا غفل الإنسان وسوس له، وإذا ذكر ربه؛ خنس. وخذ ما يلي:

عن أنس-رضي الله عنه-عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله؛ خنس، وإن نسي؛ التقم قلبه». رواه البيهقي، وأبو يعلى، وابن أبي الدنيا. وفيه

<<  <  ج: ص:  >  >>