للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دلالة واضحة على أن القلب متى ذكر الله تصاغر الشيطان، وذل، وحقر، وإن لم يذكر الله تعالى؛ تعاظم، وغلب. هذا؛ وانظر شرح قوله تعالى في سورة (التكوير): {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} وخذ قول الراجز: [الرجز]

وصاحب يمتعس امتعاسا... يزداد إن حيّيته خناسا

{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ:} وهذا يكون منه إذا غفلوا عن ذكر ربهم. قال مقاتل -رحمه الله تعالى-: إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، سلطه الله على ذلك، فذلك قوله تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ}. وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم في العروق». ويزاد فيه: «فضيّقوا مجاريه بالجوع». وهذا يصحح ما قاله مقاتل. وروى شهر بن حوشب عن أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه-قال: سألت الله أن يريني الشيطان، ومكانه من ابن آدم، فرأيته: يداه في يديه، ورجلاه في رجليه، ومشاعبه في جسده، غير أن له خطما كخطم الكلب، فإذا ذكر الله؛ خنس، ونكس. وإذا سكت العبد عن ذكر الله؛ أخذ بقلبه. فعلى ما وصف أبو ثعلبة: أنه متشعب في الجسد؛ أي: في كل عضو منه شعبة.

وروي عن عبد الرحمن بن الأسود، أو غيره (وهو من التابعين): أنه قال-وقد كبرت سنه- ما أمنت الزنى، وما يؤمنني أن يدخل الشيطان ذكره فيوتده؟! فهذا القول ينبئك: أنه متشعب في الجسد، وهذا معنى قول مقاتل. ووسوسة الشيطان: هو الدعاء لطاعته بكلام خفي، يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت. انتهى. قرطبي بحروفه.

{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ:} أخبر الله تعالى: أن الموسوس من الجن، وقد يكون من الناس.

قال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: هما شيطانان: أما شيطان الجن؛ فيوسوس في صدور الناس خفية، ولا يرى. وأما شيطان الإنس فيأتي علانية، وجهرا، فيزين المنكر بلسان طلق، كله خديعة، ومكر، واحتيال. فالنمام أخبث من سبعين شيطانا من الجن، والمنافق المتزلف أخبث من ثمانين شيطانا، فقد قال قتادة-رضي الله عنه-: إن من الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين، فتعوذ بالله من شياطين الإنس، والجن. وروي عن أبي ذر-رضي الله عنه-: أنه قال لرجل: هل تعوذت بالله من شياطين الإنس؟ فقال: أو من الإنس شياطين؟ قال: نعم لقوله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ..}. إلخ رقم [١١٢] من سورة (الأنعام).

وذهب قوم إلى أن {النّاسِ} هنا يراد به الجن، سمّوا ناسا كما سمّوا رجالا في قوله تعالى:

{وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ} رقم [٦] من سورة (الجن)، وسمّوا قوما، ونفرا في قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ..}. إلخ رقم [٢٩] من سورة (الأحقاف). انظر شرح هذه الآيات في محالها، تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، فعلى هذا يكون: {وَالنّاسِ} عطفا على الجنة، ويكون التكرير لاختلاف اللفظين.

<<  <  ج: ص:  >  >>