والحياء بالمعنى المتقدم مستحيل في حقّ الله تعالى، بل المراد منه في حقه تعالى: التّرك اللازم للانقباض، كما ورد في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:«إنّ الله حييّ كريم يستحيي من العبد إذا رفع إليه يديه أن يردّهما صفرا خائبتين». أخرجه أبو داود، والترمذي، وحسنه عن سلمان الفارسي-رضي الله عنه-، وقال الزمخشري: أي: لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها. وقول له آخر: هو من باب المشاكلة.
{أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً:} معناه: يبيّن، فيتعدّى لواحد، وقيل: معناه: التصيير، فيتعدّى لاثنين، نحو: ضربت الطين لبنا، وقال بعضهم: لا يتعدّى لاثنين إلا مع المثل خاصّة.
{بَعُوضَةً:} واحدة البعوض، وهو صغار البق، واشتقاقه من البعض، وهو القطع، ومنه بعض الشيء؛ لأنه قطعة منه، وقد بعضته تبعيضا، أي: جزأته، فتبعّض، وسميت البعوضة بذلك لصغرها. {فَما فَوْقَها}. والبعوض من عجيب خلق الله تعالى فإنه في غاية الصّغر، وله ستة أرجل، وأربعة أجنحة، وذنب، وله خرطوم مجوف، وهو مع صغره يغوص خرطومه في جلد الفيل، والجاموس، والجمل، فيبلغ منه الغاية؛ حتى إنّ الجمل ليموت من قرصه. انتهى.
خازن. قال القرطبي: والفاء بمعنى «إلى» أي: إلى ما فوقها، وهذا قول الكسائي، والفراء أيضا. وهذا قاله ابن هشام في مغني اللبيب في الآية نفسها، واستأنس بهذه الآية، ليثبت: أنّ الفاء وقعت بمعنى «إلى» في قول امرئ القيس في أول معلقته، وهو الشاهد رقم [٢٩٣] من كتابنا: «فتح القريب المجيب»: [الطويل]
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل... بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل
انظر الكلام عليه إن كنت من أهل مغني اللبيب تجد الكلام عليه طويلا وعريضا، واعتبر من العكس، أي: مجيء «إلى» بمعنى الفاء في قول كثير عزّة، وهو الشاهد رقم [٢٩٥] من كتابنا المذكور: [الطويل]
وأنت الّتي حبّبت شغبا إلى بدا... إليّ وأوطاني بلاد سواهما
هذا وفي الفوقية قولان: أحدهما: فما دونها في الصّغر، والحقارة، كما إذا وصف رجل باللؤم والشّحّ، فيقول السامع: نعم هو فوق ذلك، يعني: فيما وصفت، وهذا قول أكثر المحققين، قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم:«لو كانت الدّنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء». رواه ابن ماجة، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح عن أبي سهل بن سعد -رضي الله عنه-. والثاني:{فَما فَوْقَها} لما هو أكبر منها؛ لأنه ليس شيء أحقر، ولا أصغر من البعوضة. وهذا قول قتادة بن دعامة، واختيار ابن جرير، فإنه يؤيد ما رواه مسلم عن عائشة -رضي الله عنها-: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة».