للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أرسلك أن لا تأخذ مني شيئا، يكون للنار فيه نصيب. فقال: وأنا أعوذ بعزّته أن أعصي له أمرا، وقبض منها قبضة من جميع بقاعها: من عذبها، ومالحها، وحلوها، ومرّها، وطيّبها، وخبيثها، وصعد بها إلى السماء، فسأله ربّه، عزّ وجل، وهو أعلم بما صنع، فأخبره بما قالت، وبما ردّ عليها، فقال الله-عز وجل-: وعزّتي، وجلالي لأخلقنّ ممّا جئت به خلقا، ولأسلطنّك على قبض أرواحهم لقلّة رحمتك، ثمّ جعل الله تلك القبضة، نصفها في الجنّة، ونصفها في النّار، ثم تركها ما شاء الله، ثمّ أخرجها، فعجنها بيده لكيلا يتكبّر إبليس عنه، فعجنها طينا لازبا، قال تعالى في سورة الصافات رقم [١١]: {إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} وقال تعالى في سورة المؤمنون رقم [١٢]: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} فكان جسدا من طين أربعين سنة، ثمّ كان حمأ مسنونا مدّة؛ أي: طينا منتنا، قال تعالى في سورة الرحمن رقم [١٤]: {خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ}. ثم كان جسدا ملقى على باب الجنة مدّة، فكانت الملائكة يعجبون من صفة صورته، لأنّهم لم يكونوا رأوا مثله.

وكان إبليس يمرّ عليه، ويقول: لأمر ما خلق هذا، ونظر إليه؛ فإذا هو أجوف. فقال: هذا خلق لا يتمالك، ودخل من فمه، وخرج من دبره، وقال للملائكة: إن فضّل هذا عليكم ماذا تصنعون؟ فقالوا: نطيع الله، ولا نعصيه، فقال إبليس في نفسه: لئن فضّل عليّ؛ لأعصينّه، ولئن فضّلت عليه؛ لأهلكنّه.

فلما أراد الله تعالى أن ينفخ فيه الروح؛ أمرها أن تدخل في جسده، فنظرت فرأت مدخلا ضيقا، فقالت: يا ربّ! كيف أدخل هذا الجسد، قال الله عز وجل: ادخليه كرها، وستخرجين منه كرها، فدخلت في يافوخه، فوصلت إلى عينيه، فجعل ينظر إلى سائر جسده طينا، فسارت إلى أن وصلت إلى منخريه، فعطس، فلما بلغت لسانه: قال: الحمد لله ربّ العالمين، وهي أول كلمة قالها، فناداه الله تعالى: رحمك الله يا أبا محمد! ولهذا خلقتك، ولما بلغت جوفه؛ اشتهى الطّعام، ولما بلغت الركبتين همّ ليقوم، فلم يقدر، كما قال تعالى في سورة الأنبياء رقم [٣٧]:

{خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} فلما بلغت الساقين، والقدمين، استوى قائما بشرا سويّا، لحما، ودما، وعظما، وعروقا، وعصبا، وأحشاء، وكسي لباسا من ظفر، يزداد جسده جمالا وحسنا كل يوم، وجعل في جسده تسعة أبواب: سبعة في رأسه، وهي الأذنان يسمع بهما، والعينان يبصر بهما، والمنخران يشم بهما، والفم فيه اللسان يتكلم به، والأسنان يطحن بها ما يأكله، ويجد لذة المطعومات بها، وبابين في أسفله، وهما القبل، والدبر، يخرج منهما ثفل طعامه، وشرابه، وجعل عقله في دماغه، وفكره، وصرامته في قلبه، وشرهه في كليته، وغضبه في كبده، ورغبته في رئته، وضحكه في طحاله، وفرحه، وحزنه في وجهه.

فسبحان من جعله يسمع بعظم، ويبصر بشحم، وينطق بلحم، ويعرف بدم، وركب فيه الشهوة، وحجزه بالحياء.

<<  <  ج: ص:  >  >>