يجيء إلا بالحرث، والزّراعة، والتعب، وأنّهما لا مرية في حلّهما، وخلوصهما؛ لنزولهما من عند الله، وما يخرج من الأرض يتخلّله البيع، والغشّ، واللّفّ، والدّوران، فكان أدنى من هذه الوجوه.
{اِهْبِطُوا مِصْراً} أي: انزلوا، وأصل النزول من أعلى إلى أسفل، وانظر الآية رقم [٣٦]، وصرف {مِصْراً} لأن المراد به مصر من الأمصار، فهو نكرة بسبب تنوينه، وهو قول ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، رضي الله عنه. وقيل: بل المراد مصر فرعون؛ التي كانوا فيها في عهده، واستدل القائلون بهذا بما في القرآن من أنّ الله أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون، وآثارهم. وأجازوا صرفها، قال الأخفش، والكسائيّ: لخفتها، وشبهها ب «هند»، و «دعد» يعني بسكون الوسط، قال الشاعر:[المنسرح]
لم تتلفّع بفضل مئزرها... دعد ولم تسق دعد في العلب
وقال الحطيئة وهو الشاهد رقم [٤٣] من كتابنا: «فتح رب البرية»: [الطويل]
ألا حبّذا هند وأرض بها هند... وهند أتى من دونها النّأي والبعد
{فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ} أي: ما طلبتم من البقول، والنباتات المذكورة:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} أي: ألزموها، وقضي عليهم بها، كناية عن إحاطتها بهم، كما تحيط القبة بمن ضربت عليه. وهذا كان على قبائل اليهود، وعلى نسلهم إلى زمن قريب، ويسمّى ذلك استعارة بالكناية، قال الشاعر في مدح ابن الحشرج أمير خراسان:[الكامل]
إنّ السّماحة والمروءة والنّدى... في قبّة ضربت على ابن الحشرج
هذا؛ و {الذِّلَّةُ} الذلّ، والصّغار، والمسكنة، والفقر، فلا يوجد يهوديّ-وإن كان غنيّا- خاليا من زي الفقر، وخضوعه، ومهانته، ولقد أذلّهم الله كلّ حياتهم، فبخت نصّر المجوسي أذلّهم، وامتهنهم، كما سترى في أول سورة الإسراء، ثمّ النصارى ساموهم العذاب، ولمّا جاء الإسلام؛ طردهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم من المدينة، ثم طهّر الفاروق بلاد الحجاز من رجسهم، ثمّ لما فتح بيت المقدس؛ فرض عليهم الجزية، ولكن في هذه الأيام صار لهم صولة، ودولة بسبب تفرّق المسلمين، وإهمالهم لتعاليم دينهم، وتركهم لسنة نبيّهم، وتركهم الجهاد في سبيل الله، وإقبالهم على الدّنيا، وكأنّ الله نزع الذلّة، والمسكنة من رقاب اليهود، وألبسها أعناق المسلمين بسبب ذلك. وخذ ما يلي:
فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: أقبل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «يا معشر المهاجرين! خمس خصال إذا ابتليتم بهنّ، وأعوذ بالله أن تدركوهنّ: لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ حتى يعلنوا بها؛ إلاّ فشا فيهم الطاعون، والأوجاع؛ التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين