فاسترجعوا وابكوا على دينكم... واصطبروا إنّ الأجر للصّابر
أقول وبالله التوفيق: لو أقيمت الحدود الشّرعية في هذه الأيام؛ لوجب قتل المسلم بالكافر، والسّبب في ذلك تغيّر الأوضاع الاجتماعية، كما لا يخفى.
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي: سمح بأن تنازل وليّ المقتول عن بعض حقّه، أو تنازل عن قتل القاتل إلى أخذ الدّية، وفي ذكر {أَخِيهِ} تعطّف، وتلطّف داع إلى العفو، وإعلام من الله تعالى لعباده المؤمنين بأن القتل لا يقطع أخوّة الإيمان بينهم.
{فَاتِّباعٌ} أي: فمطالبة من العافي، أو المتنازل عن بعض حقّه للقاتل. {بِالْمَعْرُوفِ:}
باللطف، والرّفق. {وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ} أي: وعلى القاتل الذي تنازل له وليّ المقتول عن بعض حقّه أن يؤدّي ما عليه بإحسان؛ أي: بلا بخس للحقّ، ولا مطل، ولا خداع.
{ذلِكَ:} إشارة إلى الحكم المذكور من جواز القصاص، والعفو عنه إلى الدّية، أو إسقاط بعضها. {تَخْفِيفٌ:} تسهيل، وتيسير. {مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أي: من الله تعالى بكم حيث وسع في ذلك، ولم يحتّم واحدا منهما، كما حتم على اليهود القصاص، وعلى النصارى الدّية، لا يجوز لكلّ ملّة منهم أن تأخذ بغير ما فرض الله عليها، وفي هذا تضييق على كلّ من وليّ المقتول، والقاتل، وقد خير الله هذه الأمة بين القود، والدّية، وأيضا العفو تيسير عليها، وقال تعالى في آية المائدة بعد ذكر القصاص:{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ} فندب إلى رحمة العفو، والصدقة.
{فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ} أي: بأن قتل وليّ المقتول القاتل، أو تعرّض له بسوء بعد أخذ الدية، أو بعد العفو عنه. قال الحسن البصريّ-رحمه الله تعالى-: كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا؛ فرّ إلى قومه، فيجيء قومه، فيصالحون بالدّية، فيقول وليّ المقتول: إنّي أقبل بالدّية، حتّى يأمن القاتل، ويخرج، فيقتله، ويرمي إليهم بالدّية. واختلف فيمن قتل بعد أخذ الدية، فقال جماعة من العلماء، ومنهم: مالك، والشّافعي: هو كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله، وإن شاء عفا عنه، وعذابه في الآخرة. وقال قتادة، وعكرمة، والسّدي، وغيرهم: عذابه أن يقتل البتّة، ولا يمكّن الحاكم الوليّ من العفو. وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:«لا أعفي من قتل بعد أخذه الدّية». وهذا دعاء عليه، أي: لا كثر ماله، ولا استغنى، ولا أعفاه الله من عذاب الآخرة. وفي سنن الدّارقطني عن أبي شريح الخزاعي-رضي