للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال العلماء: إنما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله، فلعلّ هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه اتخذ الشعر طريقا للتكسب، فيفرط في المدح إذا أعطي، وفي الهجو، والذم إذا منع، فيؤذي الناس في أموالهم، وأعراضهم، فهذا حكم الشعر المذموم، وحكم صاحبه، فلا يحل سماعه، ولا إنشاده في مسجد، وغيره.

هذا؛ ويجدر بي أن أقول إن هناك شعرا لا يمنع الإنسان من إنشاده، ولا من سماعه، وهو كثير منه ما تضمن ذكر الله، وحمده، والثناء عليه، أو ذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو مدحه، وقد مدحه عمّه العباس-رضي الله عنه-فقال له: «لا يفضض الله فاك». وكان يحب النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يسمع ما قاله فيه عمه أبو طالب من قصائد، وأشعار، أو تضمن الشعر دفاعا، وذبّا عنه صلّى الله عليه وسلّم وعن الإسلام، وما قاله حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك-رضي الله عنهم-من قصائد في هذا الباب كثير، ومشهور، ومحفوظ، وقد أنشد كعب بن زهير-رضي الله عنه-النبي صلّى الله عليه وسلّم قصيدته المشهورة: (بانت سعاد) فلم ينكر عليه، بل سمعها كلّها منه.

وكثيرا ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحث حسان، وعبد الله بن رواحة، وغيرهما على هجاء المشركين، فعن البراء بن عازب-رضي الله عنه-: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم قريظة لحسان:

«اهج المشركين؛ فإنّ جبريل معك». متفق عليه. وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضع لحسان منبرا في المسجد، يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وينافح، ويقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله يؤيّد حسّان بروح القدس ما نافح، أو فاخر عن رسول الله». أخرجه البخاري.

وعن عائشة-رضي الله عنها-: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اهجوا قريشا، فإنّه أشدّ عليها من رشق بالنّبل». فأرسل إلى ابن رواحة، فقال: «اهجهم». فهجاهم، فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه، قال حسان: «قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضّارب بذنبه» ثم أدلع لسانه، فجعل يحركه، فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينّهم بلساني فري الأديم. أخرجه مسلم، والفري: الشق. والأديم: الجلد.

وروى الترمذي، وصححه عن ابن عباس-رضي الله عنهما-: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة في عمرة القضاء، وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه، ويقول-رضي الله عنه-: [الرجز]

خلّوا بني الكفّار عن سبيله... اليوم نضربكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله... ويذهل الخليل عن خليله

فقال له عمر-رضي الله عنه-: يا بن رواجة في حرم الله، وبين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟! فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خلّ عنه يا عمر! فلهو أسرع فيهم من نضح النّبل». وانظر ما ذكرته عن عمر -رضي الله عنه-في الآية رقم [١٢].

<<  <  ج: ص:  >  >>