للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الهجرة إلى المدينة المنورة جاء عمر، ومعاذ، ونفر من الصّحابة رضوان الله عليهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: يا رسول الله! أفتنا في الخمر، فإنّها مذهبة للعقل، مسلبة للمال. فنزلت الآية الكريمة التي نحن بصدد شرحها، فشربها قوم، وتركها آخرون تورّعا، وترجيحا لمضرّتها على منفعتها، الّتي ذكرتها، ثم إن عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه-دعا جماعة من الصحابة إلى بيته، فشربوا، وسكروا، فلمّا حضرت صلاة المغرب، قدّموا أحدهم يصلّي بهم، فقرأ سورة (الكافرون): {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ} إلخ، وحذف (لا) النافية، فأنزل الله تعالى قوله في سورة (النساء): {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى..}. إلخ، فتركها الأكثرون، وقلّ من يشربها، وعمر بن الخطاب-رضي الله عنه-كان يقول دائما: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا.

ثم إنّ عتبان بن مالك الأنصاري-رضي الله عنه-دعا جماعة من الصّحابة فيهم سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنهم أجمعين-، فأكلوا، وشربوا، حتّى أخذت منهم الخمر، فافتخروا عند ذلك، وانتسبوا، وتناشدوا الأشعار، فأنشد سعد-رضي الله عنه-قصيدة فيها فخر بقومه، وهجاء الأنصار، فأخذ رجل من الأنصار لحي بعير، فضرب به رأس سعد، فشجّه موضحة، فانطلق سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشكا إليه الأنصاريّ، فقال الفاروق-رضي الله عنه-: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا! ويروى: أن الحمزة-رضي الله عنه-شرب الخمرة يوما، وخرج، فلقي رجلا من الأنصار، وبيده ناضح ناقة له، والأنصاريّ يتمثّل ببيتين لكعب بن مالك-رضي الله عنه-، يمدح بهما قومه، وهما: [الطويل]

جمعنا مع الإيواء نصرا وهجرة... فلم ير حيّ مثلنا في المعاشر

فأحياؤنا من خير أحياء من مضى... وأمواتنا من خير أهل المقابر

فقال الحمزة-رضي الله عنه-: أولئك المهاجرون، وقال الأنصاريّ: بل نحن الأنصار، فجرد الحمزة سيفه، وعدا على الأنصاريّ، فهرب الأنصاريّ، وترك ناضحه، فقطعه الحمزة بسيفه، فجاء الأنصاريّ شاكيا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره بفعل الحمزة، فغرم له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناقة، فقال الفاروق-رضي الله عنه-: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا! فأنزل الله تعالى آية (المائدة) قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ..}. إلخ إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقال الفاروق-رضي الله عنه-: انتهينا يا رب! فكانت الآيات مما وافق رأي عمر-رضي الله عنه-وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيّام.

هذا؛ والحكمة في وقوع التّحريم على هذا التّرتيب: أنّ الله تعالى علم: أنّ القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بذلك كثيرا، فعلم أنّه لو منعهم من الخمر دفعة واحدة؛ لشقّ ذلك عليهم، فلا جرم استعمل هذا التّدريج، وهذا الرّفق. قال أنس رضي الله عنه: حرّمت

<<  <  ج: ص:  >  >>