شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى وكقوله تعالى في سورة (الأنبياء): {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى} وهذا من عظمة الله، وجلاله، وكبريائه عزّ وجلّ؛ حيث لا يجرؤ أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة، كما في قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشّفاعة:
«آتي تحت العرش، فأخرّ ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفّع».
{يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ:} الضمير يعود إلى الخلق المعبّر عنهم ب {ما؛} والمعنى:
يعلم الله ما هو حاضر، وشاهد لهم، وهو الدّنيا وما فيها، وما خلفهم، أي: أمامهم من أمر الآخرة، ويجوز أن يكون المعنى {ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ:} أمر الآخرة، {وَما خَلْفَهُمْ:} أمر الدّنيا؛ لأنّ الإنسان مستقبل للآخرة، مستدبر للدنيا، فهو دليل قاطع على إحاطة علمه عز وجل بجميع الكائنات، ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها.
{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ} أي: لا يعلمون شيئا من معلوماته إلا بما أعلمهم الله إياه على ألسنة الرّسل، أو المراد: لا يطلعون على شيء من علم ذاته، وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه، كقوله تعالى في سورة (طه): {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}.
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ:} يقال: فلان وسع الشيء سعة: إذا احتمله، وأطاقه، وأمكنه القيام به، وأصل الكرسيّ في اللغة: من تركّب الشيء بعضه على بعض، ومنه الكرّاسة لتركيب بعض أوراقها على بعض، والكرسيّ في العرف: اسم لما يقعد عليه، وسمّي به لتركيب خشباته بعضها على بعض، واختلفوا في الكرسيّ هنا على أربعة أقوال:
أحدها: أنّ الكرسيّ هو العرش نفسه، قاله الحسن البصري؛ لأنّ العرش، والكرسي اسم للسّرير؛ الذي يصحّ التمكّن عليه.
الثاني: أنّ الكرسيّ غير العرش، وهو أمامه، وهو فوق السّماوات السّبع، ودون العرش، قال السّدّي رحمه الله تعالى: إنّ السموات والأرض في جوف الكرسيّ كحلقة ملقاة في فلاة، والكرسيّ في جنب العرش كحلقة في فلاة، وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-: إنّ السموات السّبع في الكرسيّ كدراهم سبعة ألقيت في ترس.
القول الثالث: إنّ الكرسي هو الاسم الأعظم؛ لأنّ العلم يعتمد عليه، كما أنّ الكرسي يعتمد عليه، وقال ابن عباس: كرسيّه: علمه، وهو قول ثان له، ورجّحه الطبري، قال: ومنه الكرّاسة التي تضمّ العلم، ومنه قيل للعلماء: كراسي؛ لأنّهم يعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض، قال الشاعر: [الطويل]
يحفّ بهم بيض الوجوه وعصبة... كراسيّ بالأحداث حين تنوب