للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً:} فهذا نهي عن الغيبة، وهي أن تذكر الرجل بما فيه، فإن ذكرته بما ليس فيه؛ فهو البهتان. ثبت معناه في صحيح مسلم: عن أبي هريرة-رضي الله عنه-: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكرك أخاك بما يكره»، قيل:

أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول؛ فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه؛ فقد بهتّه». وعن عائشة-رضي الله عنها-: قالت: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: (حسبك من صفيّة كذا، وكذا)، قال بعض الرواة: تعني: قصيرة، فقال: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر؛ لمزجته».

قالت: وحكيت له إنسانا، فقال: «ما أحبّ أن حكيت لي إنسانا، وإنّ لي كذا وكذا». رواه أبو داود، والترمذي.

وبالجملة: فالغيبة من الكبائر، التي تحتاج إلى توبة صادقة بشروطها المعروفة بدليل ما رواه أبو داود عن سعيد بن زيد-رضي الله عنه-عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ من أربى الرّبا الاستطالة في عرض المسلم بغير حقّ». والأحاديث المنفرة من الغيبة كثيرة مسطورة في: «الترغيب والترهيب» وغيره. أما عقوبة صاحب الغيبة في الاخرة؛ فقد بيّنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «من أكل لحم أخيه في الدنيا قرّب إليه يوم القيامة، فيقال له: كله ميّتا، كما أكلته حيّا، فيأكله، ويكلح، ويضجّ».

رواه أبو يعلى، والطبراني عن أبي هريرة-رضي الله عنه-. وعن أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لمّا عرج بي؛ مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم، وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم». رواه أبو داود.

ممّا تقدّم يتبيّن لنا: أن الغيبة حرام، حرّمها الله، ورسوله، وشدّد النكير على مقترفيها إلاّ لغرض صحيح مشروع لا يتحقق إلاّ بها؛ كمصلحة شرعية يتوقف تحقيقها على ذكر أحد بعيوبه، وقبيح أفعاله، مثل أن يقول المظلوم لمن له ولاية كالقاضي: فلان ظلمني؛ كي ينصفه منه. ومنها:

الاستفتاء، كما يقول للمفتي: فلان يفعل بي كذا، وكذا. فقد ورد: أن هندا زوج أبي سفيان قالت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن أبا سفيان رجل شحيح، فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف». ومنها:

الاستعانة على تغيير المنكر، مثل أن يقول لمن يرجو قدرته على تغيير المنكر: فلان يشرب الخمر، أو يلعب بالقمار، ونحو ذلك. ومنها: الاستشارة في نكاح فاسق، أو مشاركته في تجارة، أو زراعة، ومنها: أن يكون معروفا بلقب يعرب عن عيبه، كالأعرج، والأخفش... إلخ، من غير أن يقصد احتقار الملقب بذلك، ومنها: أن يكون إنسان مجاهرا بالفسق، والفجور، والظلم، والتعدي على حرمات الناس، وحقوقهم. وهذا معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أتورّعون عن ذكر الفاجر أن تذكروه؟ اذكروه يعرفه النّاس». وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس». وكقوله صلّى الله عليه وسلّم لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: «ائذنوا له بئس أخو العشيرة هو». وكقوله صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة بنت قيس

<<  <  ج: ص:  >  >>