للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عظيما، وأجرا جزيلا. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} أي: وكثير من النصارى خارجون عن حدود الطاعة منتهكون لمحارم الله تعالى، كقوله عز وجل في سورة (التوبة) رقم [٣٤]: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ..}. إلخ فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ولم يبق منهم إلا قليل؛ جاؤوا من الكهوف، والصوامع، والغيران فآمنوا به، وهم الذين قال تعالى في حقهم في سورة (المائدة): {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ}.

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وهذه الاية دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ابتدع خيرا أن يدوم عليه، ولا يعدل عنه إلى ضده، فيدخل في الاية. وعن أبي أمامة الباهلي، -واسمه: صدي بن عجلان-. قال: أحدثتم قيام رمضان (التراويح) ولم يكتب عليكم، إنما كتب عليكم الصيام، فدوموا على القيام؛ إذ فعلتموه، ولا تتركوه، فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا، لم يكتبها الله عليهم، ابتغوا بها رضوان الله، فما رعوها حقّ رعايتها، فعابهم الله بتركها فقال: {وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها..}. إلخ.

ثم قال: وفي الاية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع، والبيوت، وذلك مندوب إليه عند فساد أهل الزمان، وتغير الأصدقاء، والإخوان. انتهى. أقول: وقد جاء الحث، والترغيب في العزلة في الأحاديث الشريفة مثل قول النبى صلّى الله عليه وسلّم لحذيفة بن اليمان-رضي الله عنه-من الحديث الطويل: «اعتزل تلك الفرق كلّها، ولو أن تعضّ بأصل شجرة». وهو في البخاري:

«يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال يفرّ بدينه من الفتن». وحديث عقبة بن عامر-رضي الله عنه-مشهور لما سأله عن النجاة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك». رواه الترمذي.

هذا؛ وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن مسعود-رضي الله عنه-. قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «يا بن مسعود! اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة، نجا منها ثلاث، وهلك سائرهن: فرقة وازرت الملوك، وقاتلوهم على دين عيسى، فأخذوهم، وقتلوهم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك، ولا أن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى، فساحوا في البلاد، وترهبوا، وهم الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ»}. قال صلّى الله عليه وسلّم: «من آمن بي، وصدّقني، واتبعني؛ فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي؛ فأولئك هم الهالكون». وعنه-رضي الله عنه-قال: كنت رديف النبي صلّى الله عليه وسلّم على حمار، فقال لي: «يا بن أم عبد، هل تدري من أين أخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟». قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السّلام يعملون بالمعاصي، فغضب أهل

<<  <  ج: ص:  >  >>