وكان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم النبي صلّى الله عليه وسلّم أموال بني النضير؛ دعا الأنصار، وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم، ثم قال:«إن أحببتم؛ قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم، وبينهم، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم، وأموالكم. وإن أحببتم؛ أعطيتهم، وخرجوا من دوركم». فقال السيدان السعدان-سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة رضي الله عنهما-: بل تقسمه بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادى الأنصار جميعهم-رضي الله عنهم-: رضينا، وسلمنا يا رسول الله! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:«اللهمّ ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار!». وأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المهاجرين-ولم يعط الأنصار شيئا إلا الثلاثة الذين ذكرناهم. انتهى. قرطبي بتصرف.
هذا؛ وإطلاق لفظ الحاجة على ما تقدم من إطلاق الملزوم على اللازم على سبيل الكناية؛ لأن هذه المعاني لا تنفك عن الحاجة غالبا، وأصل حاجة ما يحتاج، وتجمع على حاج، وحوج بوزن عنب، وحوائج على غير قياس، وحاجات. قال الشاعر:[الطويل] أرى الدهر إلا منجنونا بأهله... وما صاحب الحاجات إلا معذّبا
وهذا هو الشاهد رقم [١١٧] من كتابنا: «فتح القريب المجيب».
{وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ:} فقر وحاجة إلى ما يؤثرون به غيرهم، والإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية، رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا؛ أي: خصصته به، وفضلته، وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إني مجهود.
فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى الأخرى، فقالت: مثل ذلك؛ حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فقال:«من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟!». فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله! فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم بشيء، فإذا أرادوا العشاء؛ فنوميهم، فإذا دخل ضيفنا؛ فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل، فقعدوا، وأكل الضيف، وباتا طاويين، فلما أصبح غدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:«قد عجب الله من صنيعكما الليلة بضيفكما». ونزل قوله تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ} رواه مسلم وغيره.
وقال ابن عمر، وأنس بن مالك-رضي الله عنهما-: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة، وكان مجهودا، فوجه به إلى جار له، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر، حتى تداوله سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول. ذكره الثعلبي، وقصة حذيفة العدوي في وقعة اليرموك مشهورة مسطورة لا أطيل الكلام فيها.
{وَمَنْ يُوقَ:} من الوقاية، وهي التحرز من الوقوع في المهالك، والمعنى: ومن حماه الله، وحفظه، وسلم من الشح؛ فقد أفلح، ونجح. {شُحَّ نَفْسِهِ:} حرصها على المال، والشح في كلام العرب: البخل مع الحرص، وقد فرق العلماء بين البخل والشح، فقال: البخل نفس