للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذي أرسلك، فهو عالم بك. {وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ:} يعني في قولهم: نشهد أنك لرسول الله؛ لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا، وذلك؛ لأن حقيقة الإيمان أن يواطئ اللسان القلب، وكذلك الكلام، فمن أخبر عن شيء، واعتقد خلافه، أو أضمر خلاف ما أظهر؛ فهو كاذب، ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم: نشهد أنك لرسول الله، وسماه كذبا؛ لأن قولهم خالف اعتقادهم. هذا؛ ويشبه هذا قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [٥٦]: {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}. وقال أحمد محشي الكشاف: ومثل هذا من نمطه المليح قوله تعالى: {قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا} الاية رقم [١٤] من سورة (الحجرات).

هذا؛ وقد سجل القرآن على المنافقين قبيح صنعهم، وخبيث نياتهم؛ حيث وصفهم بأنهم مطبوعون على الكذب، وبين ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم في أحاديثه الصحيحة: فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان». رواه البخاري، ومسلم، وزاد مسلم في رواية له: «وإن صلّى، وصام، وزعم أنه مسلم». ورواه أبو يعلى من حديث أنس-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:

«ثلاث من كنّ فيه فهو منافق، وإن صام وصلّى، وحجّ واعتمر، وقال: إني مسلم». وعن عبد الله ابن عمرو بن العاص-رضي الله عنه-أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». رواه البخاري، ومسلم.

وهذا الكلام من النبي صلّى الله عليه وسلّم على سبيل الإنذار للمسلمين، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال؛ شفقة أن تفضي بهم إلى النفاق، وليس المعنى: أن من بدرت منه هذه الخصال من غير اختيار، واعتياد: أنه منافق، ولا بد من القول: إن النفاق على نوعين: نفاق العمل، وهو أن يتصف مسلم بتلك الصفات الذميمة، أو ببعضها، وهو يصوم، ويصلي، ويحج... إلخ، ونفاق العقيدة: وهو أن يظهر الإسلام، ويضمر الكفر، ويتصف بتلك الصفات الذميمة، وقلما تفارقه؛ لأنه مطبوع عليها، وهي ديدنه. وليحذر المسلم من نفاق العمل، فإنه يجر إلى نفاق العقيدة، ونفاق العقيدة أخبث من الكفر. قال تعالى في سورة (النساء): {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً}. هذا؛ وسمي المنافق منافقا أخذا من: نافقاء اليربوع، وهو حجره الذي يقيم فيه، فإنه يجعل له بابين يدخل من أحدهما، ويخرج من الاخر، فكذلك المنافق يدخل مع المؤمنين بقوله: أنا مؤمن، ويدخل مع الكفار بقوله: أنا معكم.

وينبغي أن تعلم: أن النفاق لم يكن في مكة، وإنما كان بها الكفر، ولم يظهر النفاق إلا بالمدينة المنورة، حين عز الإسلام، وكثر أنصاره، وسببه: أن أهل المدينة حينما اصطلحوا بعد

<<  <  ج: ص:  >  >>