مركبا، فأخذ خشبة، فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبها، ثمّ زجّج موضعها، ثمّ أتى بها البحر، فقال: اللهم إنّك تعلم أنّي تسلفت فلانا ألف دينار، فسألني كفيلا، فقلت: كفى بالله كفيلا! فرضي بك، وسألني شهيدا، فقلت: كفى بالله شهيدا! فرضي بك، وإنّي جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له، فلم أقدر، وإنّي أستودعكها! فرمى بها في البحر؛ حتّى ولجت فيه، ثمّ انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الذي كان أسلفه ينظر لعلّ مركبا قد جاء بماله، فإذا الخشبة الّتي فيها المال، فأخذها حطبا لأهله، فلمّا نشرها وجد المال والصّحيفة، ثمّ قدم الذي كان أسلفه، وأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبا قبل الذي جئت فيه، قال: هل كنت بعثت إليّ بشيء؟ قال: أخبرك أنّي لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه! قال: فإنّ الله قد أدّى عنك الذي بعثته في الخشبة، فانصرف بالألف الدينار راشدا»، رواه البخاريّ معلقا مجزوما، والنّسائي، وغيره مسندا.
{وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ} أي: إذا دعيتم إلى إقامتها، وأدائها، وذلك لأنّ الشاهد متى امتنع من إقامة الشّهادة، وكتمها؛ فقد أبطل بذلك حقّ صاحب الحقّ، فلهذا نهى عن كتمان الشهادة! وبالغ في الوعيد عليه، فقال تعالى:{وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} أي: فاجر قلبه، وإنما أضيف الإثم إلى القلب؛ لأن الأفعال من الدّواعي، والصّوارف إنما تحدث في القلب، فلمّا كان الأمر كذلك؛ أضيف الإثم إلى القلب، قيل: ما أوعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشّهادة، فإنّه تعالى، قال:{فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وأراد به مسخ القلب، نعوذ بالله من ذلك! انتهى. خازن.
وقال النسفي-رحمه الله تعالى-: وإنّما أسند إلى القلب، والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؛ لأنّ كتمان الشهادة إنّما يضمرها في القلب، ولا يتكلّم بها، فلمّا كان إثما مقترفا مكتسبا بالقلب؛ أسند إليه؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، كما تقول: هذا مما أبصرته عيني، وممّا سمعته أذني، وممّا عرفه قلبي، ولأن القلب رئيس الأعضاء، والمضغة التي إن صلحت؛ صلح الجسد كلّه، وإن فسدت؛ فسد الجسد كلّه، فكأنه قيل: فقد تمكّن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكان منه، ولأنّ أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسّيئات، الإيمان، والكفر، وهما من أفعال القلوب؟! وإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب؛ فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب، وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وشهادة الزّور، وكتمان الشّهادة، وهو مأخوذ من قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو ما يلي:
فعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:«من كتم شهادة إذا دعي إليها، كان كمن شهد بالزّور» رواه البخاريّ.