للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بعد هذا أقول وبالله التوفيق: إذا اعتمدنا ما ذكرته عن الثعلبي في المقدمة: أن أول السورة نزل في بدء الوحي، والآية الأخيرة نزلت في المدينة، فيكون ما ذكر عن عائشة، وابن عباس-رضي الله عنهما-فيه تعارض، واضطراب، وأقرب إلى الصواب أن يقال: نسخ فرضية قيام الليل كان بفريضة الصلوات الخمس. ويكون قول سعيد بن جبير أقرب من الصواب؛ لأن عشر سنين تكون بين نزول أول السورة في مكة، ونزول آخرها في المدينة. والله أعلم، وأجل، وأكرم.

{نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً:} فكان ذلك تخفيفا؛ إذ لم يكن زمان القيام محدودا، والمعنى: قم نصف الليل، أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث. {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أي: زد على النصف إلى الثلثين، فكأنه قال: قم ثلثي الليل، أو نصفه، أو ثلثه. ولا تنس الطباق بين {اُنْقُصْ} و {زِدْ} وهو من المحسنات البديعية. وبالإضافة لما ذكرته في سورة (الإسراء) رقم [٧٩]، وسورة (الفرقان) رقم [٦٤]، وسورة (السجدة) رقم [١٦] خذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينزل الله عز وجل إلى سماء الدّنيا كلّ ليلة حين يمضي ثلث الليل الأوّل، فيقول: أنا الملك! أنا الملك! من ذا الذي يدعوني، فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر». أخرجه الإمام مسلم في صحيحه. وقد جاء في كتاب النسائي عن أبي هريرة، وأبي سعيد-رضي الله عنهما-قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله عز وجل يمهل؛ حتى يمضي شطر الليل الأوّل، ثم يأمر مناديا، يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟». وخرّج ابن ماجه من حديث ابن شهاب، عن أبي سلمة، وأبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة-رضي الله عنهم أجمعين-: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينزل ربّنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر كلّ ليلة، فيقول: من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر». فكانوا يستحبون صلاة آخر الليل على أوله. قال علماؤنا: وبهذا الترتيب انتظم الحديث، والقرآن، فإنهما يبصران من مشكاة واحدة. انتهى.

قرطبي، أقول: والنزول المذكور مستمر كل ليلة إلى أن تطلع الشمس من مغربها.

أقول: وفي معنى النزول مذهبان: مذهب الخلف التأويل، يقولون: تنزل رحمة الله ورضوانه وجوده، وكرمه، وإحسانه؛ بمعنى: تفتح أبواب ذلك. ومذهب السلف التفويض: يقولون: نزول لا نعلمه، أو يقولون: نزول يليق به تعالى. وهذا الحديث من المتشابهات، مثل قوله تعالى في سورة (طه): {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} وغير ذلك كثير.

هذا؛ وعن عائشة-رضي الله عنها-: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقوم من الليل حتى تتفطّر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا؛ وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخّر؟ قال: «أفلا أحبّ أن أكون عبدا شكورا؟!». رواه البخاري، ومسلم. وهذا بعد أن نسخ فرضية قيام الليل عنه صلّى الله عليه وسلّم، فعبادته لم تكن

<<  <  ج: ص:  >  >>