للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الزائدُ عن القِرْبتيْن مشكوكٌ فيه، مع أنه يقعُ علَى المجهول، والظاهِرُ قِلَّتُه؛ لأنَّ لفظَه يدلُّ على تَقارُبِ ما بين الأمْرَيْن المذكورَيْن، وكلَّما قَلَّ الشىءُ كان أقْرَبَ إلى القِرْبتيْن، وكلامُ أحمد يدلُّ علَى هذا؛ فإنه رُوِىَ عنه أن القُلَّةَ قِرْبتان، ورُوِىَ قِرْبتان ونصف، ورُوِيَ: وثلث، وهذا يدُلُّ علَى أنه لم يَحُدَّ في ذلك حَدًّا. ثم ليس للِقِرْبة حَدٌّ معلومٌ؛ فإنَّ القِرَبَ تختلفُ اختلَافًا كثيرًا، فلا يكاد قِرْبتان يتفقان في حَدٍّ واحد، ولهذا لو اشْتَرَى منه شيئًا مُقدَّرًا بالقِرَبِ، أو أسْلَمَ في شيءٍ محدودٍ بالقِرَب؛ لم يَجُزْ ذلك؛ ولأن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قد عَلِمَ أنَّ الناسَ لا يكِيلُون الماءَ ولا يزِنونَه، فلم يكنْ ليُعَزِّفَهم الحَدَّ بما لا يُعَرَّفُ به، وإنما أراد أنَّ مَن وجَد ماءً فيه نَجاسةٌ فظَنَّه مُقارِبًا للقُلَّتيْن توضَّأ منه، وإنْ ظَنَّه ناقِصًا عنهما مِن غَيْرِ مُقارَبةٍ لهما تَرَكَهُ.

وفائدةُ هذا، أن مَن اعْتَبرَ التَّحْدِيدَ، فنقَص عن الحَدِّ شيئًا يَسِيرًا، لم يُعْفَ عنه، ونَجُسَ بوُرُودِ النجاسةِ عليه، ومَن قال بالتَّقريبِ عُفِىَ عن النَّقْصِ اليَسِير عندَه، وتعلُّق الحُكْمُ بما يُقارِبُ القُلَّتيْن، إن شَكَّ في بُلوغِ الماءِ قَدْرًا يدفَعُ النجاسةَ أو لا يدفعُها ففيه وجْهان:

أحدُهما، يُحْكَم بطَهارتِه؛ لأنه كان طاهِرًا قبلَ وُقوع النجاسةِ فيه، وشَكَّ هل ينْجُس به أو لا؟ فلا يزولُ اليَقِينُ بالشَّكِّ.

والثانى، يُحْكَم بنَجاستِه؛ لأن الأصلَ قِلَّةُ الماءِ، فَنبْنِى عليه، ويَلْزَمُ من ذلك النجاسةُ.

فصل: فأمَّا [ماعدا] (٤٣) الماء مِن الْمَائِعاتِ، ففيه ثلاثُ روايات:

إحْداهُنَّ، أنه ينْجُسُ بالنَّجاسةِ وإن كَثُرَ؛ لأنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِل عن فَأْرةٍ وقعتْ في سَمْنٍ، قال: "إِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ" روَاه الإِمامُ أحمد، في "مُسْنَدِه" (٤٤)،


(٤٣) في م: "غير".
(٤٤) في الجزء الثاني، صفحات ٢٣٣، ٢٦٥، ٤٩٠، وفى الموضع الأخير: "فلا تأكلوه".
وأخرجه أبو داود، في: باب في الفأرة تقع في السمن، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود ٢/ ٣٢٨. =

<<  <  ج: ص:  >  >>