للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُحَرَّمَةً عليه، فأجابَه غيرُها، فوَطِئَها يظُنُّها المدعُوَّةَ، فعليه الحَدُّ، سواءٌ كانت المدعُوَّةُ ممَّن له فيها شُبْهَةٌ، كالجارِيَةِ المُشْترَكَةِ، أو لم يكُنْ؛ لأنَّه لا يُعْذَرُ بهذا، فأشْبَهَ ما لو قَتَلَ رجلًا يظُنُّه ابنَه أو عبدَه، فبانَ أجْنبِيًّا.

فصل: ولا حَدَّ على من لم يعلَمْ تَحْريمَ الزِّنَى. قال عمرُ، وعثمانُ، وعلىٌّ: لا حَدَّ إلَّا على مَنْ عَلِمَه (٢٣). وبهذا قال عامَّةُ أهلِ العلمِ. فإن ادَّعَى الزَّانِى الجَهْلَ بالتَّحْرِيمِ، وكان يَحْتَمِلُ أن يَجْهَلَه، كحديثِ العَهْدِ بالإِسْلامِ والنَّاشِئِ ببادِيَةٍ، قُبِلَ منه؛ لأنَّه يجوزُ أن يكونَ صادِقًا، وإن كانَ ممَّن لا يَخْفَى عليه ذلك، كالمسلِمِ النَّاشِئِ بينَ المسلِمين، وأهلِ العِلْمِ، لم يُقْبَلْ؛ لأنَّ تَحْريمَ الزِّنَى لا يَخْفَى على مَن هو كذلك، فقد عُلِمَ كَذِبُه. وإن ادَّعَى الجَهْلَ بفسادِ نِكاحٍ باطلٍ، قُبِلَ قولُه؛ لأنَّ عمرَ قَبِلَ قولَ المُدَّعِى الجهلَ بتَحْرِيمِ النِّكَاحِ في العِدَّةِ، ولأنَّ مثلَ هذا يُجْهَلُ كثيرًا، ويَخْفَى على غيرِ أهلِ العِلْمِ.

فصل: فإن وَطِىءَ جاريَةَ غيرِه، فهو زَانٍ. سواءٌ كان بإذْنِه أو غيرِ إذنِه؛ لأنَّ هذا ممَّا لا يُسْتَباحُ بالبَذْلِ والإِباحَةِ، وعليه الحَدُّ إلَّا في مَوْضِعَيْنِ؛ أحدُهما، الأبُ إذا وَطِىءَ جارِيَةَ ولدِه، فإنَّه لا حَدَّ عليه. في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ منهم مالِكٌ، وأهلُ المدينةِ، والأوْزَاعِىُّ، والشَّافِعِىُّ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. وقال أبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: عليه الحَدُّ، إلَّا أن يَمْنَعَ منه إجماعٌ؛ لأنَّه وَطْءٌ في غيرِ مِلْكٍ، أشْبَهَ وَطْءَ جارِيَةِ أبِيهِ. ولَنا، أنَّه وَطْءٌ تمَكَّنَتِ الشُّبْهَةُ منه، فلا يَجِبُ به الحَدُّ، كوَطْءِ الجارِيَةِ المُشْترَكَةِ، والدَّلِيلُ على تَمَكُّنِ الشُّبْهةِ قولُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنتَ ومَالُكَ لِأَبِيكَ" (٢٤). فأضافَ مالَ ولدِه إليه، وجعَلَه له، فإذا لم نُثبِتْ حقيقةَ المِلْكِ، فلا أقلَّ من جَعْلِه شُبْهَةً دَارئَةً للحَدِّ الذي يَنْدَرِئُ بالشُّبُهاتِ، ولأنَّ القائِلِينَ بانْتِفاءِ الحَدِّ في عصرِ مالِكٍ، والأوْزَاعِىِّ، ومَن وافقَهُما، قد اشْتَهَرَ قولُهم، ولم يُعْرَفْ لهم مُخالِفٌ، فكان ذلك إجماعًا، ولا حَدَّ على الجارِيَةِ؛ لأنَّ


(٢٣) أخرجه البيهقي عن عمر وعثمان، في: باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات، من كتاب الحدود. السنن الكبرى ٨/ ٢٣٨، ٢٣٩.
(٢٤) تقدم تخريجه، في: ٨/ ٢٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>