للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فصل: والهِبَةُ المُطْلَقةُ، لا تَقْتَضِى ثَوَابًا، سواءٌ كانت من الإِنْسانِ لمِثْلِه أو دُونِه أو أعْلَى منه. وبهذا قال أبو حنيفَةَ. وقال الشافِعِيُّ في الهِبَةِ لمِثْلِه أو دونه كَقَوْلِنا. فإن كانت لأَعْلَى منه، ففيها قَوْلَانِ؛ أحدهما، أنَّها تَقْتَضِى الثَّوابَ. وهو قول مالِكٍ، لقولِ عمرَ، رَضِىَ اللهُ عنه: ومن وَهَبَ هِبَةً أرادَ بها الثَّوَابَ، فهو على هِبَتِه، يَرْجِعُ فيها إذا لم يَرْضَ منها (١٤). ولَنا، أنَّها عَطِيَّةٌ على وَجْهِ التَّبَرُّعِ، فلم تَقْتَضِ ثوَابًا، كهِبَةِ المِثْلِ والوَصِيَّةِ، وحَدِيثُ عمرَ قد خَالَفَه ابْنُه وابنُ عَبَّاسٍ، فإنْ عَوَّضَه عن الهِبَةِ، كانت هِبَةً مُبْتَدَأةً لا عِوَضًا، أيُّهما أصابَ عَيْبًا لم يكُنْ له الرَّدُّ. وإن خَرَجَتْ مُسْتَحَقّةً، أخَذَها صاحِبُها، ولم يَرْجِع المَوْهُوبُ له بِبَدَلِها. فإن شَرَطَ في الهِبَةِ ثَوَابًا مَعْلُومًا، صَحَّ. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، فهو كالبَيْعِ، وحُكْمُها حُكْمُ البَيْعِ، في ضَمَانِ الدَّرَكِ، وثُبُوتِ الخِيَارِ والشُّفْعْةِ. وبهذا قال أصْحابُ الرأى. ولأَصْحابِ الشافِعِيِّ قولٌ، أنَّه لا يَصِحُّ؛ لأنَّه شَرَطَ في الهِبَةِ ما يُنَافِى مُقْتَضاها ولَنا، أنَّه تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ، فصَحَّ ما لو قال: مَلَّكْتُكَ هذا بِدِرْهَمٍ. فإنَّه لو أطْلَقَ التَّمْلِيكَ كان هِبَةً، وإذا ذَكرَ العِوَض صارَ بَيْعًا. وقال أبو الخَطَّابِ: وقد رُوِىَ عن أحمدَ ما يَقْتَضِي أن يَغْلِبَ في هذا حُكْمُ الهِبَةِ، فلا تَثْبُتُ فيها أحْكَامُ البَيْعِ المُخْتَصَّةُ به. فأمَّا إن شَرَطَ ثَوَابًا مَجْهُولًا، لم يَصِحَّ، وفَسَدَتِ الهِبَةُ، وحُكْمُها حُكْمُ البَيْعِ الفاسِدِ، يَرُدُّها المَوْهُوبُ له بِزِيَادَتِها المُتَّصِلَةِ والمُنْفَصِلَةِ؛ لأنَّه نَمَاءُ مِلْكِ الواهِبِ. وإن كانت تَالِفةً (١٥)، رَدَّ قِيمَتَها، وهذا قولُ الشافِعِيِّ، وأبى ثَوْرٍ. وظاهِرُ كلامِ أحمدَ، رَحِمَه اللَّه، أنَّها تَصِحُّ، فإذا أعْطاه عنها عِوَضًا رَضِيَه، لَزِمَ العَقْدُ بذلك، فإنَّه قال، في رِوَايةِ محمدِ بن الحَكَمِ: إذا قال الواهِبُ: هذا لك على أن تُثِيبَنِى. فله أن يَرْجِعَ إذا لم يُثِبْه، لأنَّه شَرْطٌ. وقال، في رِوَايةِ إسماعيلَ بن سَعِيدٍ: إذا وَهَبَ له على وَجْهِ الإِثَابةِ،


(١٤) تقدم تخريجه في صفحة ٢٦٢.
(١٥) في الأصل: "باقية".

<<  <  ج: ص:  >  >>