للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَنْتَفِعُون بها، أو لِيَنْتَفِعَ هو بها مُدَّةَ إقَامَتِه عندَها ثم يَتْرُكُها، لم يَمْلِكها، وكان له الانْتِفَاعُ بها، فإذا تَرَكَها صارت لِلْمسلمين كلِّهم، كالمَعادِنِ الظاهِرَةِ، وما دام مُقِيمًا عندها فهو أحَقُّ بها؛ لأنَّه سابِقٌ إليها، فهو كالمُتَحَجِّرِ الشَّارِعِ في الإِحْياءِ.

فصل: وإذا كان لإِنْسانٍ شَجَرَةٌ في مَوَاتٍ، فله حَرِيمُها قَدْرَ ما تَمُدُّ إليه أغْصَانَها حَوَالَيْها، وفى النَّخْلَةِ مَدُّ جَرِيدِها؛ لما رَوَى أبو دَاوُدَ (١٢)، بإسْنادِه عن أبي سَعِيدٍ، قال: اخْتُصِمَ إلى النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حَرِيمِ نَخْلةٍ، فأمَرَ بِجَرِيدَةٍ من جَرَائِدِها فَذُرِعَتْ، فكانت سَبْعَةَ (١٣) أذْرُعٍ أو خَمْسةَ أذْرُعٍ، فقَضَى بذلك. وإن غَرَسَ شَجَرةً في مَوَاتٍ، فهى له وحَرِيمُها. وإن سَبَقَ إلى شَجَرٍ مُباحٍ، كالزَّيْتُونِ والخَرُّوبِ، فسَقَاهُ وأصْلَحَه، فهو أحَقُّ به، كالمُتَحَجِّرِ الشّارِعِ في الإِحْياءِ، فإن طَعَمَهُ مَلَكَه بذلك وحَرِيمَه؛ لأنَّه تَهَيَّأَ للانْتِفاعِ به لما يُرَادُ منه، فهو كَسَوْقِ الماءِ إلى الأرْضِ المَوَاتِ؛ ولقولِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ، فَهُوَ أحَقُّ بِهِ" (١٤).

فصل: ومن كانت له بِئْرٌ فيها ماءٌ، فحَفَرَ آخَرُ قَرِيبا منها بِئْرًا يَنْسَرِقُ إليها ماءُ البِئْرِ الأُولَى، فليس له ذلك، سواءٌ كان مُحْتَفِرُ الثانيةِ في مِلْكِه، مثل رَجُلَيْنِ مُتَجَاوِرَيْنِ في دَارَيْنِ، حَفَرَ أحَدُهُما في دارِهِ بِئْرًا، ثم حَفَرَ الآخَرُ بِئْرًا أعْمَقَ منها، فسَرَى إليها ماءُ الأُولَى، أو كانَتَا في مَوَاتٍ، فسَبَقَ أحَدُهما، فحَفَرَ بِئْرًا، ثم جاءَ آخَرُ فحَفَرَ قَرِيبًا منها بِئْرًا تَجْتَذِبُ ماءَ الأُولَى. ووَافَقَ الشافِعِىُّ في هذه الصُّورَةِ الثانيةِ؛ لأنَّه ليس له أن يَبْتَدِىءَ مِلْكَه على وَجْهٍ يَضُرُّ بالمالِكِ قبلَه. وقال في الأُولَى: له ذلك؛ لأنَّه تَصَرُّفٌ مُباحٌ في مِلْكِه، فجازَ له فِعْلُه، كتَعْلِيةِ دَارِه. وهكذا الخِلَافُ في كل ما يُحْدِثُه الجارُ ممَّا يَضُرُّ بِجَارِه، مثل أن يَجْعَلَ دارَه مَدْبَغَةً، أو حَمَّامًا يَضُرُّ بِعَقَارِ جارِه بِحَمْىِ نارِه ورَمَادِه


(١٢) في: باب أبواب من القضاء، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود ٢/ ٢٨٤.
(١٣) في الأصل: "ستة".
(١٤) تقدم تخريجه في صفحة ١٥٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>