للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المُتقادِمَةِ. وهذا مذهبُ الشَّافعيِّ؛ لخبَرِ عمرَ الذى قدَّمْناه (٨)، ولأنَّ عادةَ الناسِ إظْهارُ الطَّاعاتِ (٩) وإسْرارُ المَعاصِى، فإذا لم يكُنْ ذا خِبْرةٍ باطنةٍ، فَربَّما اغتَرَّ (١٠) بحُسْنِ ظاهرِه، وهو فاسقٌ في الباطنِ. وهذا يَحْتَمِلُ أن يُرِيدُوا به أنَّ الحاكمَ إذا علِمَ أنَّ المُعدِّل لا خِبْرَةَ له، لم يَقْبلْ شهادتَه بالتَّعْديلِ، كما فعل عمرُ، رَضِىَ اللهُ عنه، ويَحْتَمِلُ أنَّهم أرادوا أنَّه لا يجوزُ للمُعَدِّلِ الشَّهادةُ بالعَدالةِ، إلَّا أن تكونَ له خِبْرَةٌ باطِنَةٌ. فأمَّا الحاكمُ إذا شهِدَ عنده العَدْلُ بالتَّعْديلِ، ولم يَعِرفْ حقيقةَ الحالِ، فله أن يَقْبَلَ الشَّهادةَ مِن غيرِ كَشْفٍ، وإن اسْتكْشَفَ الحالَ، كما فعلَ عمرُ، رَضِىَ اللهُ عنه، فلا بَأْسَ.

فصل: ولا يُسْمَعُ الجَرْحُ إلَّا مُفسَّرًا، ويُعْتَبرُ فيه اللفظُ فيقولُ: أشْهَدُ أنَّنِى رأيتُه يشْرَبُ الخمرَ، أو يُعامِلُ بالرِّبا، أو يَظْلِمُ الناسَ بأخْذِ أموالهِم أو ضَرْبِهم، أو سمِعتُه يَقْذِفُ: أو يُعْلمُ ذلك باسْتِفاضتِه (١١) في الناسِ. ولابدَّ مِن ذِكْرِ السَّبَبِ وتَعْيِينِه. وبهذا قال الشافعيُّ، وسَوَّارٌ. وقال أبو حنيفةَ: يُقْبَلُ الجَرْحُ المُطْلَقُ، وهو أن يَشْهَدَ أنَّه فاسقٌ، أو أنَّه ليس بِعَدْلٍ. وعن أحمدَ مثلُه؛ لأنَّ التَّعديلَ يُسْمَعُ مُطْلقًا؛ فكذلك الجَرْحُ، ولأنَّ التَّصْرِيحَ بالسَّبَبِ يجْعَلُ الجارحَ فاسِقًا، ويُوجِبُ عليه الحَدَّ في بعضِ الحالاتِ، وهو أن يَشْهَدَ عليه بالزِّنَى، فيُفْضِى الجَرْحُ إلى جَرْحِ الجارحِ، وتبْطِيلِ شَهادتِه، ولا يَتجرَّحُ بها المَجْروحُ. ولَنا، أنَّ الناسَ يَخْتلِفون في أسبابِ الجَرْحِ، كاخْتلافِهم في شاربِ النَّبِيذِ، فوجبَ أن لا يُقْبَلَ مُجرَّدُ الجَرْحِ، لئلَّا يجْرَحَه بما لا يَراه القاضى جَرْحًا؛ ولأنَّ الجَرْحَ ينْقُلُ عن الأصلِ، فإنَّ الأصلَ في المسلمين العَدالةُ، والجرحُ يَنْقُلُ عنها، فلابُدَّ أن يُعْرَفَ النَّاقلُ، لئلَّا يُعْتقَدَ نَقْلُه بما لا يرَاه الحاكمُ ناقِلًا. وقولُهم: إنَّه يُفْضِى إلى جَرْحِ الجارحِ، وإيجابِ الحَدِّ عليه. قُلْنَا: ليس كذلك؛ لأنَّه يُمْكِنُه التَّعْرِيضُ مِن غيرِ تَصْريحٍ. فإن قيل: ففى بَيانِ السَّبَبِ هَتْكُ المَجْروحِ. قُلْنا: لابُدَّ من هَتْكِه؛ فإنَّ الشهادةَ عليه بالفِسْقِ


(٨) تقدم تخريجه، في صفحة ٤٤.
(٩) في م: "الصالحات".
(١٠) في ب: "اعتبر".
(١١) في الأصل: "باستفاضة".

<<  <  ج: ص:  >  >>