للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فصل: وظاهِرُ مذهبِ أحمدَ أن الوَقْفَ يَحْصُلُ بالفِعْلِ مع القَرَائِنِ الدَّالّةِ عليه، مثل أن يَبْنِىَ مَسْجِدًا، ويَأْذَنَ لِلنَّاسِ في الصَّلَاةِ فيه، أو مَقْبَرَةً، ويَأْذَنَ في الدَّفْنِ فيها، أو سِقَايةً، ويَأْذَنَ في دُخُولِها، فإنَّه قال: في رِوَايةِ أبى دَاوُدَ، وأبى طالِبٍ، في مَن أدْخَلَ بَيْتًا في المَسْجِدِ وأَذِنَ فيه، لم يَرْجِعْ فيه. وكذلك إذا (٦) اتَّخَذَ المقَابِرَ وأذِنَ للنَّاسِ، والسِّقاية، فليس له الرُّجُوعُ، وهذا قولُ أبى حنيفةَ. وذَكَرَ القاضي فيه رِوَايةً أخرى، أنَّه لا يَصِيرُ وَقْفًا إلَّا بالقَوْلِ. وهذا مذهبُ الشافِعِىِّ. وأخَذَه القاضي من قولِ أحمدَ، إذ سَأَلَهُ الأثْرَمُ عن رَجُلٍ أحَاطَ حائِطًا على أرْضٍ، لِيَجْعَلَها مَقبَرَةً، ونَوَى بِقَلْبه، ثم بَدَا له العَوْدُ؟ فقال: إن كان جَعَلَها للهِ، فلا يَرْجِعْ. وهذا لا يُنَافِى الرِّوَايةَ الأُولَى، فإنَّه أرَادَ بقَوْلِه: إن كان جَعَلَها لِلهِ أى نَوَى بِتَحْوِيطِها جَعْلَها لِلهِ. فهذا تَأْكِيدٌ لِلرِّوَايةِ الأُولَى، وزِيَادَةٌ عليها، إذ مَنَعَهُ من الرُّجُوعِ بمُجَرَّدِ التَّحْوِيطِ مع النِّيّةِ. وإن أرَادَ بقَوْلِه: جَعَلَها لِلهِ. أي: اقْتَرَنَتْ بفِعْلِه قَرائِنُ دَالّةٌ على إرَادَةِ ذلك، من إذْنِه للنَّاسِ في الدَّفْنِ فيها، فهى الرِّوَايةُ الأُولَى بِعَيْنِها، وإن أرَادَ: وَقَفَها (٧) بِلِسَانِه، فيَدُلُّ بمَفْهُومِه على أنَّ الوَقْفَ لا يَحْصُلُ بمُجَرَّدِ التَّحْوِيطِ والنِّيَّةِ، وهذا لا يُنَافِى الرِّوَايةَ الأُولَى؛ لأنَّه في الأُولَى انْضَمَّ إلى فِعْلِه إذْنُه للنَّاسِ في الدَّفْنِ، ولم يُوجَدْ ههُنا، فلا تَنَافِىَ بينهما، ثم لم يُعْلَمْ مُرَادُه من هذه الاحْتِمالاتِ، فانْتَفَتْ هذه الرِّوَايةُ، وصارَ المذهبُ رِوَايةً واحِدَةً. واللَّه أعلمُ. واحْتَجُّوا بأن هذا تَحْبِيسُ أصْلٍ على وَجْهِ القُرْبةِ، فوَجَبَ أن لا يَصِحَّ بدون اللَّفْظِ، كالوَقْفِ على الفُقَراءِ. ولَنا، أنَّ العُرْفَ جارٍ بذلك، وفيه دَلَالَةٌ على الوَقْفِ، فجازَ أن يَثْبُتَ به، كالقولِ، وجَرَى مَجْرَى مَن قَدَّمَ إلى ضَيْفِه طَعَامًا، كان إذْنًا في أكْلِه، ومن مَلأَ خابِيةَ ماءٍ على الطَّرِيقِ، كان تَسْبِيلًا له، ومن نَثَرَ على الناسِ نِثَارًا، كان إذْنًا في الْتِقَاطِه، وأُبِيحَ أخْذُه. وكذلك دُخُولُ الحَمّامِ، واسْتِعْمالُ مائِه من غيرِ إذْنٍ مُبَاحٌ بِدَلَالةِ الحالِ. وقد قَدَّمْنَا في البَيْعِ أنَّه يَصِحُّ بالمُعَاطاةِ من غيرِ لَفْظٍ،


(٦) في الأصل زيادة: "كان".
(٧) في ب، م: "وقفا".

<<  <  ج: ص:  >  >>