للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والثانى، يطْهُر؛ لقولِه عليه السلام: "أيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ". ولأنه طَهُرَ بانْقِلابِه، فلم يفتَقِرْ إلى اسْتعمالِ الماء، كالخَمْرةِ إذا انقَلبتْ خَلًّا.

والأوَّلُ أوْلَى، والخبرُ والمعنَى يدُلَّانِ علَى طهارةِ عَيْنهِ، ولا يَمْنَعُ ذلك مِن وُجوبِ غَسْلهِ مِن نجاسةٍ تُلاقِيه، كما لو أصابتْه نجاسةٌ سِوَى آلةِ الدَّبْغِ، أو أصابَتْه آلةُ الدَّبْغِ بعدَ فَصْلِه عنها.

فصل: ولا يفْتَقِرُ الدَّبْغُ إلى فِعْلٍ؛ لأنها إزالةُ نَجاسةٍ، فأشْبَهتْ غَسْلَ الأرض، فلو وقَع جِلدُ مَيْتةٍ في مَدْبَغةٍ، بغيرِ فعل، فانْدَبَغَ، طَهُرَ، كما لو نَزل ماءُ السماءِ علَى أرضٍ نَجِسةٍ، طَهَّرهَا.

فصل: وإذا ذُبِحَ مالا يُؤْكَلُ لحمُه كان جلدُه نَجِسًا. وهذا قولُ الشافعىِّ.

وقال أبو حنيفة، ومالك: يطْهُر؛ لقوْل النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دِبَاغُ اْلأَدِيمِ ذَكَاتُهُ". أي: كذَكاتِه، فشَبَّهَ الدَّبْغ بالذَّكاة، والْمُشَبَّهُ به أقْوَى مِن الْمُشَبَّهِ، فإذا طَهَّرَ الدَّبْغُ مع ضَعْفِه فالذَّكاةُ أوْلَى، ولأنَّ الدَّبْغَ يرفعُ العِلَّةَ بعدَ وُجودِها، والذَّكاةَ تَمْنَعُها، والْمَنْعُ أقْوَى مِن الرَّفْعِ.

ولنا أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن افْتِرَاشِ جُلودِ السِّباع، ورُكوبِ النُّمورِ، وهو عامٌّ في المُذَكَّى وغيرِه، ولأنه ذَبْحٌ لا يُطَهِّرُ اللحمَ، فلم يُطَهِّر الجلدَ، كذَبْحِ المَجُوسِىِّ. أو ذَبْحٍ غيرِ مشروعٍ، فأَشْبَهَ الأصْلَ، والخبرُ قد أجَبْنا عنه فيما مَضَى، ثم نقول: إن الدَّبْغَ إنما يُؤثِّرُ في مأكولِ اللحمِ، فكذلك ما شُبِّهَ به، ولو سَلَّمْنا أنه يُؤَثِّرُ في تطْهِيرِ غيرِه، فلا يلزمُ حُصولُ التَّطْهِير بالذَّكاةِ، لكَوْنِ الدَّبْغِ مُزِيلًا للخَبَثِ والرُّطوباتِ كُلِّها، مُطَيِّبًا للجلدِ علَى وَجْهٍ يَتَهيَّأ به للبقاءِ علَى وَجْهٍ لا يتغَيَّرُ، والذَّكاةُ لا يحصُل بها ذلك، فلا يُسْتَغْنَى بها عن الدَّبْغِ.

وقولُهم: الْمُشَبَّهُ أضْعَفُ مِن الْمُشَبَّه به. غيرُ لازِمٍ؛ فإن اللَّه تعالى قال في صِفَةِ الْحُورِ: {كَأنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} (٣٢). وهُنَّ أحسنُ مِن البَيْضِ، والمرأةُ الحسناءُ تُشَبَّه بالظَّبْيَةِ وبَقَرةِ الوَحْشِ، وهى أحسنُ منهما. وقولُهم: إنَّ الدَّبْغَ يرفعُ العِلَّةَ


(٣٢) سورة الصافات ٤٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>