للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فصل: فإن تَحمَّلَ الشَّهادةَ على فِعلٍ، ثم عَمِىَ، جاز أن يَشْهدَ به، إذا عَرَفَ المشهودَ عليه باسْمِه ونَسَبه. وبهذا قالَ الشَّافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا تجوزُ شَهادتُه أصلًا؛ لأَنَّه لا يجوزُ أن يكَونَ حاكِمًا. ولَنا، ما تَقدَّمَ؛ ولأنَّ العَمَى فَقْدُ حاسَّةٍ لاتُخِلُّ بالتَّكْليفِ، فلم يَمْنَعْ قَبولَ الشَّهادةِ كالصَّمَمِ، ويُفارِقُ الحُكْمَ، فإنَّه يُعْتبَرُ له من شُروطِ الكمالِ ما لا يُعْتبَرُ للشَّهادةِ، ولذلك يُعْتَبرُ له السَّمعُ والاجْتهادُ وغيرُهما، فإنْ لم يَعْرِفِ المَشْهودَ عليه باسْمِه ونَسَبِه، لكنْ تَيقَّنَ صَوْتَه؛ لكَثْرَةِ إلْفِه له، صحَّ أن يَشْهدَ به أيضًا؛ لما ذكرْنا فى أوَّلِ المسألةِ. وإن شَهِدَ عند الحاكمِ، ثم عَمِىَ قبلَ الحُكْمِ بشَهادتِه، جاز الحُكْمُ بها. وبهذا قال الشَّافعىُّ، وأبو يُوسُفَ، ومُحمَّد. وقال أبو حنيفةَ: لا يجوزُ الحُكْمُ بها؛ لأَنَّه مَعْنًى يَمْنَعُ قبولَ الشَّهادةِ مع صِحَّةِ النُّطقِ، فمنَعَ الحُكْمَ بها، كالفِسْقِ. ولَنا، أنَّه مَعْنًى طَرَأَ بعدَ أداءِ الشهادةِ، لا يُورِثُ تُهْمَةً فى حالِ الشَّهادةِ، [فلم يَمْنَعْ قَبولَها كالموتِ، وفارَقَ الفِسْقَ؛ فإنَّه يُورِثُ تُهْمةً حالَ الشَّهادةِ] (٧).

فصل: ولا تَجوزُ شَهادةُ الأخْرسِ بحالٍ. نَصَّ عليه أحمدُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، فقال: لا تَجوزُ شَهادةُ الأخْرَسِ. قيل له: وإن كتَبَها؟ قال: لا أدْرِى. وهذا قولُ أصْحابِ الرَّأْىِ. وقال مالكٌ، والشَّافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ: تُقْبَلُ إذا فُهِمَتْ إشارتُه؛ لأنَّها تَقومُ مَقامَ نُطْقِه فى أحْكامِه، مِن طلاقهِ، ونِكاحِه، وظِهارِه، وإيلائِه، فكذلك فى شَهَادتِه. واسْتدَلَّ ابنُ المُنْذِرِ بأنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أشارَ وهو جالِسٌ فى الصَّلاةِ إلى الناسِ وهم قيامٌ، أنِ اجْلِسوا. فجَلَسُوا (٨). ولَنا، أنَّها شَهادةٌ بالإِشارةِ، فلم تَجُزْ، كإشارَةِ النَّاطقِ، يُحقِّقُه أَنَّ الشَّهادةَ يُعْتَبرُ فيها اليَقِينُ، ولذلك لا يُكْتفَى بإيماءِ النَّاطقِ، ولا يَحْصُلُ اليَقِينُ بالإِشارةِ، وإنَّما اكْتُفِىَ (٩) بإشارتِه فى أحكامِه المُختصَّةِ به للضَّرورةِ، ولا ضَرورةَ ههُنا، ولهذا لم يَجُزْ أن يكون حاكمًا، ولأنَّ الحاكمَ لا يُمْضِى حُكْمَه إذا وَجدَ حُكْمَه بخطِّه تحت خَتْمِه، ولم يَذْكُرْ حُكمَه، والشاهدُ لا يَشْهدُ برُؤْيَةِ خَطِّه، فلئلَّا يَحْكُمَ بخَطِّ غيرِه أوْلَى. وما اسْتدَلَّ به ابنُ المُنْذرِ لا يَصِحُّ؛ فإنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان قادِرًا على الكَلامِ،


(٧) سقط من: الأصل. نقل نظر.
(٨) تقدم تخريجه، فى: ٣/ ٨.
(٩) فى ب: "يكتفى".

<<  <  ج: ص:  >  >>