للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقيل عن الشافعىِّ: إنَّ ما لا يدركُه الطَّرْفُ من النجاسةِ مَعْفُوٌّ عنه؛ للمشقَّةِ اللاحقةِ به. ونَصَّ في موضع على أنَّ الذُبابَ إذا وقع علَى خلاءٍ رقيقٍ، أو بَوْلٍ، ثم وقَع على الثَّوْبِ، غُسِلَ موضعُه، ونجاسةُ (٥٣) الذبابِ مما لا يدركها (٥٤) الطَّرْفُ، ولأنَّ دليلَ التَّنْجيسِ لا يُفَرِّقُ بين يسِيرِ النجاسةِ وكثيرِها، ولا بين ما يُدْرِكُه الطرفُ وما لا يدركه، فالتَّفْريقُ تَحَكُّمٌ بغيرِ دليلٍ، وما ذكروه من المَشَقَّةِ غيرُ صحيحٍ، لأنَّنا إنما نحكُم بنجاسةِ ما عَلِمْنا وُصولَ النجاسةِ إليه، ومع العلمِ لا يفْترِقان في المشقَّة، ثم إن المشقةَ حِكْمةٌ لا يجوز تعْليقُ الحُكْمِ بمُجَرَّدِها، وجَعْلُ ما لا يدركُه الطرفُ ضابطًا لها غيرُ صحيحٍ، فإنَّ ذلك إنَّما يُعْرَفُ بتَوْقِيفٍ، أو اعْتبارِ الشَّرْعِ له في مَوْضِعٍ، ولم يُوجَدْ واحدٌ منهما.

فصل: والغَدِيران إذا اتَّصَل أحدُهما بالآخَرِ بساقِيَةٍ بينهما، فيها ماءٌ قليل أو كثير، فهما ماءٌ واحد، حكمُهما (٥٥) حُكْمُ الغَدِير الواحِد، إن بلغا جميعًا قُلَّتَيْن لم يتنَجَّسْ واحدٌ منهما إلَّا بالتغَيُّرِ، وإن لم يبلُغاهما (٥٥) تنَجَّس كلُّ واحدٍ منهما بوُقوعِ النجاسةِ في أحدِهما؛ لأنَّه ماءٌ راكِدٌ مُتَّصِلٌ بعضُه ببَعْضٍ، أشْبَهَ الغَدِيرَ الواحدَ.

فصل في الماء الجارى: نُقِل عن أحمد، رحمهُ اللَّه، ما يدُلُّ على الفرقِ بين الماء الجارى والرَّاكِد؛ فإنه قال في حَوْض الحَمَّام: قد قيل إنَّه بمَنْزِلَة الماءِ الجارى. وقال في البئرِ يكونُ لها مَادَّةٌ: هو واقِفٌ لا يَجْرِى، ليس هو بمنزلةِ ما يَجْرِى. فعلَى هذا لا يتنَجَّسُ الجارى إلَّا بتغَيُّرِه، لأنَّ الأصْلَ طَهارتُه، ولم (٥٦) نعلم في تَنْجِيسه نَصًّا ولا إجْماعًا، فبَقِىَ علَى أصْلِ الطهارةِ، ولأنه يدخُلُ في عُمومِ قولِه عليه السلام: "الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَىْءٌ"، وقولِه: "الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنجِّسُهُ شَىْءٌ إِلَّا ما غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ".


(٥٣) في م: "لنجاسة".
(٥٤) في م: "يدركه".
(٥٥) في م: "حكمها". "يبلغاها".
(٥٦) في م: "ولا".

<<  <  ج: ص:  >  >>