للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لأنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَتَلَ رجالَ بنى قُرَيْظَةَ، وسَبَى ذَراريِهم، وأخَذَ أموالَهم، حين نَقَضُوا عَهْدَه (٦). ولمَّا هادَنَ قُرَيْشًا فنَقَضَت (٧) عَهْدَه، حَلَّ له منهم ما كانَ حَرُمَ عليه منهم (٨). ولأنَّ الهُدْنَةَ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ، ينْتَهِى بانْقِضاء مُدَّتِه (٩)، فيزولُ بِنَقْضِه وفَسْخِه، كعَقْدِ الإجارَةِ، بخلافِ عَقْدِ الذِّمَّةِ.

فصل: ومَعْنَى الهُدْنَةِ، أنْ يَعْقِدَ لأهْلِ الحَرْبِ عَقْدًا على تَرْكِ القتالِ مُدَّةً، بعِوَضٍ وبغيرِ عِوَضٍ. وَتُسَمَّى مُهادَنَةً ومُوادعَةً ومُعاهَدَةً، وذلك جائِزٌ، بدليلِ قول اللَّه تعالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (١٠). وقال سُبْحانَه وتعالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (١١). ورَوَى مَرْوَانُ، ومِسْوَرُ بن مَخْرَمَةَ، أنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، صالَحَ سُهَيْلَ بن عمرٍو بالحُدَيْبِيَةِ، على وَضْعِ القِتالِ عشرَ سِنِين (١٢). ولأنَّه قد يَكُون بالمسلمين ضَعْفٌ، فيُهادِنُهم حتَّى يَقْوَى المسلمون. ولا يجوزُ ذلك إلَّا للنَّظَرِ للمسلمين؛ إمَّا أنْ يكونَ بهم ضَعْفٌ عن قتالِهم، وإمَّا أنْ يطمَعَ فى إسْلامِهِم بِهُدْنَتِهم، أو فى أدائِهم الجِزْيَةَ، والْتزامِهم أحْكامَ المِلَّةِ، أو غيرِ ذلك من المصالِح. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه لا تَجوزُ المُهادَنَةُ مُطْلقًا من غيرِ تَقْديرِ مُدَّةٍ؛ لأنَّه يُفْضِى إلى تَرْكِ الجهادِ بالكُلِّيَّةِ. ولا يجوزُ أنْ يُشْترطَ نَقْضُها لمن شاءَ منهما؛ لأنَّه يُفْضِى إلى ضِدِّ المقْصودِ منها. وإنْ شرطَ الإِمامُ لنفسِه ذلك دُونَهم، لم يَجُزْ أيضًا. ذكَرَه أبو بكرٍ؛ لأنَّه يُنافِى مُقْتَضَى العَقْدِ، فلم يَصِحَّ، كما لو شَرطَ ذلك فى البَيْعِ والنِّكاحِ. وقال القاضى، والشافِعِىُّ:


(٦) تقدَّم تخريجه، فى صفحة ٤٦.
(٧) فى ب: "ونقضوا".
(٨) انظر ما يأتى فى صلح الحديبية.
(٩) فى أ: "مدة".
(١٠) سورة التوبة ا.
(١١) سورة الأنفال ٦١.
(١٢) أخرجه أبو داود، فى: باب فى صلح العدو، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود ٢/ ٧٨. والبيهقى، فى: باب الهدنة على أن يرد الإِمام من جاء من بلده مسلما من المشركين، من كتاب السِّيَر. السنن الكبرى ٩/ ٢٢٧، ٢٢٨. وانظر: تلخيص الحَبِير ٤/ ١٣٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>