للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اسْتِثْناءً تَجَوُّزًا، وإنَّما هو في الحَقِيقَةِ اسْتِدْرَاكٌ. "وإِلَّا" ههُنا بمعنى "لكِن". هكذا قال أهْلُ العَرَبِيَّةِ؛ منهم ابنُ قُتَيْبَةَ، وحَكَاهُ عن سِيبوَيْه. والاسْتِدْرَاكُ لا يَأْتِى إلَّا بعدَ الجَحْدِ، ولذلك لم يَأْتِ الاسْتِثْناءُ في الكِتَابِ العَزِيزِ من غيرِ الجِنْسِ إلَّا بعدَ النَّفْىِ، ولا يَأْتِى بعدَه الإِثْبَاتُ، إلَّا أن يُوجَدَ بعدَه جُمْلَةٌ. وإذا تَقَرَّرَ هذا، فلا مدْخَلَ للاسْتِدْرَاكِ في الإِقْرَارِ؛ لأنَّه إِثْبَاتٌ لِلْمُقرِّ به، فإذا ذَكَرَ الاسْتِدْرَاكَ بعدَه كان باطِلًا، وإن ذَكَرَه بعدَ جُمْلَةٍ، كأَنْ قال: له عِنْدِى مائةُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا لي عليه. فيكونُ مُقِرًّا بشيءٍ مُدَّعِيًا لشىءٍ (٧) سِوَاهُ، فيُقْبَلُ إِقْرَارُه، وتَبْطُلُ دَعْوَاهُ، كما لو صَرَّحَ بذلك بغيرِ لَفْظِ الاسْتِثْنَاءِ. وأمَّا قولُه تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ}. فإنَّ إِبْلِيسَ كان من المَلَائِكَةِ، بِدَلِيلِ أنَّ اللهَ تعالى لم يَأْمُرْ بالسُّجُودِ غَيْرَهم، فلو لم يكُنْ منهم لَما كان مَأْمُورًا بالسُّجُودِ، ولا عاصِيًا بِتَرْكِه، ولا قال اللهُ تعالى في حَقَّهِ: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (٨). ولا قال: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (٩). وإذا لم يكُنْ مَأْمُورًا فلم أنْكَسَهُ اللهُ وأَهْبَطَه ودَحَرَهُ؟ ولم يَأْمُر اللهُ تعالى بالسُّجُودِ إلَّا المَلَائِكَةَ. فإن قالوا: بل قد تَنَاوَلَ الأَمْرُ المَلَائِكَةَ ومَن كان معهم، فدَخَلَ إِبْلِيسُ في الأَمْرِ لكَوْنِه معهم. قُلْنا: قد سَقَطَ اسْتِدْلَالُكُم، فإنَّه متى كان إبْلِيسُ (١٠) داخِلًا في المُسْتَثْنَى منه، مَأْمُورًا بالسُّجُودِ، فاسْتِثْنَاؤُه من الجِنْسِ، وهذا ظَاهِرٌ لمن أَنْصَفَ، إن شاءَ اللهُ تعالى. فعلَى هذا، متى قال: له عَلَىَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا. لَزِمَهُ الأَلْفُ، وسَقَطَ الاسْتِثْنَاءُ، بمَنْزِلةِ ما لو قال: له عَلَىَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، لكنْ لي عليه ثَوْبٌ.

الفصل الثاني: إذا اسْتَثْنَى عَيْنًا من وَرِقٍ، أو وَرِقًا من عَيْنٍ، فاخْتَلَفَ أصْحَابُنا في صِحَّتِه؛ فذَهَبَ أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ إلى أنَّه لا يَصِحُّ؛ لما ذَكَرْنا. وهو قولُ محمدِ بن


(٧) في أ: "بشيء".
(٨) سورة الكهف ٥٠.
(٩) سورة الأعراف ١٢.
(١٠) سقط من: م.

<<  <  ج: ص:  >  >>