للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فدَعاهُم عمرُ إلى بَذْلِ الجِزْيَةِ، فأَبَوْا، وأَنِفُوا، وقالُوا: نحنُ عَرَبٌ، خُذْ منَّا كما يأخُذُ بعضُكم من بعضٍ باسمِ الصَّدَقةِ. فقال عمرُ: لا آخُذُ من مُشْرِكٍ صَدَقةً. فلحِقَ بعضُهم بالرُّومِ، فقال النعمانُ بنُ زُرْعَةَ: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ القومَ لهم بأْسٌ وشِدَّةٌ (١)، وهم عَرَبٌ يأْنَفُون من الجِزْيَةِ، فَلا تُعِنْ عليك عَدُوَّك بهم، وخُذ منهم الجِزْيَةَ باسم الصَّدَقَةِ. فبَعَثَ عمرُ فى طلَبِهم، فرَدَّهم، وضَعَّفَ عليهم من الإِبلِ من كلِّ خمْسٍ شاتَيْن، ومن كلِّ ثلاثين بقرةَّ تَبِيعَيْن (٢)، ومن كلِّ عشرين دِينارًا دِينارًا (٣)، ومن كلِّ مائتَىْ درْهمٍ عشرةَ دراهمَ، وفيما سقَتِ السماءُ الخُمْسَ، وفيما سُقِىَ بنَضْحٍ أو غَرْبٍ أو دُولابٍ العُشْرَ (٤). فاسْتَقَرَّ ذلك من قَوْلِ عمرَ، ولم يُخالِفْه أحدٌ من الصَّحابَةِ، فصارَ إجْماعًا. وقال به الفُقَهاءُ بعدَ الصَّحابَةِ؛ منهم ابنُ أبى لَيْلَى، والحسنُ بنُ صالِح، وأبو حنيفةَ، وأبو يوسفَ، والشافِعِىُّ. ويُرْوَى (٥) عن عمرَ بن عبدِ العزيز، أنَّه أبَى على نَصارَى بنى تغْلِبَ إلَّا الجِزْيَةَ، وقال: لا واللَّهِ إلَّا الجِزْيَةَ، وإلَّا فَقَدْ آذنتُكُم بالحَرْبِ. والحُجَّةُ لهذا عمومُ الآيَةِ فيهم. ورُوِىَ عن علىٍّ، رضِىَ اللَّه عنه، أنَّه قال: لئِنْ تَفَرَّغْتُ لبَنِى تَغْلِبَ لَيكُوَننَّ لى فيهم رَأْىٌ، لأقْتُلَنَّ مُقاتِلَتَهم، ولأسْبيَنَّ ذَرارِيَّهم، فقَدْ نَقَضُوا العَهْدَ، وبرِئَتْ منهم الذِّمَّةُ حينَ نَصَّرُوا أولادَهم (٦). وذلك أنَّ عمرَ، رضِىَ اللَّه عنه، صالَحَهم على أَنْ لا يُنَصِّرُوا أولادَهم. والعملُ على الأوَّلِ؛ لما ذَكَرْنا من الإِجْماعِ. وأمَّا الآيَةُ، فإنَّ هذا المأْخوذَ منهم جِزْيَةٌ با سم الصَّدَقَة، فإنَّ الجِزْيَةَ يجوزُ أخذُها من العُرُوضِ.

فصل: قال أصحابُنا: تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مُضاعَفَةً من مالِ مَنْ تُؤْخَذُ منه الزَّكاةُ لو كان مُسْلِمًا. وهذا قولُ أبى حنيفةَ، وأبى عُبَيْدٍ. وذُكِرَ أنَّه قولُ أهلِ الحجازِ. فعلى هذا، تُؤْخَذُ


(١) فى ب: "شديد".
(٢) فى الأصل، أ، ب: "تبيعا".
(٣) فى الأصل، أ، ب: "دينار".
(٤) تقدم تخريجه فى صفحة ٢٠٧.
(٥) فى ب: "وروى".
(٦) أخرجه البيهقى، فى: باب ما جاء فى ذبائح نصارى بنى تغلب، من كتاب الجزية. السنن الكبرى ٩/ ٢١٧. وأبو عبيد، فى: باب أخذ الجزية من عرب أهل الكتاب، من كتاب سنن الفىء والخمس والصدقة. . . الأموال ٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>