فصل: ولا يُقْاتَلُ البُغاةُ بما يَعمُّ إتْلافُه، كالنَّارِ، والمَنْجَنِيقِ، والتَّغْرِيقِ، مِن غيرِ ضَرُورةٍ؛ لأنَّه لا يجوزُ قَتْلُ مَن لا يُقاتِلُ، وما يَعُمُّ إتلافُه يقعُ على مَن يُقاتلُ ومَن لا يُقاتِلُ. فإن دَعَتْ إلى ذلك ضرورةٌ، مثل أنْ يحتاطَ بهم البُغاةُ، ولا يُمْكِنُهم التَّخَلُصُ إلَّا بِرَمْيِهم بما يَعُمُّ إتْلافُه، جازَ ذلك. وهذا قول الشافعي. وقال أبو حنيفةَ: إذا تحصَّنَ الخوارجُ، فاحتاجَ الإمامُ إلى رَمْيِهم بالمنْجَنِيقِ، فَعَلَ ذلك بهم ما كان لهم عَسْكَرٌ، وما لم يَنْهَزِمُوا، وإن رَماهم البُغاةُ بالمَنْجَنِيقِ والنَّارِ، جازَ رَمْيُهم بمثلِه.
فصل: قال أبو بكرٍ: وإذا اقْتَتَلَتْ طائفتانِ من أهلِ البَغْيِ، فقَدَرَ الإِمامُ على قهرِهما، لم يُعِنْ واحدةً منهما؛ لأنَّهما جميعًا على الخَطإِ، وإنْ عَجَزَ عن ذلك، وخاف اجْتماعَهما على حَرْبِه، ضَمَّ إليه أقْربَهما إلى الحَقِّ، فإن اسْتَوَيَا، اجْتَهدَ برَأْيِه في ضَمِّ إحداهُما، ولا يَقْصِدُ بذلكَ مَعُونةَ إحداهُما، بل الاسْتعانةَ على الأُخْرَى، فإذا هَزَمَها، لم يُقاتِلْ مَنْ معه حتى يدْعُوَهم إلى الطاعةِ؛ لأنَّهم قد حَصَلُوا في أمانِه. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. ولا يسْتعينُ على قتالِهم بالكُفَّارِ بحالٍ، ولا بمَن يَرَى قَتْلَهم مُدْبِرِينَ. وبهذا قال الشافِعيُّ. وقال أصْحابُ الرَّأْيِ: لا بَأْسَ أنْ يسْتعينَ عليهم بأهلِ الذِّمَّةِ والمُسْتَأْمَنين وصِنْفٍ آخَرَ منهم، إذا كان أهلُ العَدْلِ هم الظَّاهرين على مَن يَسْتعينُونَ به. ولَنا، أنَّ القَصْدَ كَفُّهم، وردُّهم إلى الطاعةِ، دونَ قَتْلِهم، وإنْ دعتِ الحاجَةُ إلى الاسْتعانة بهم، فإن كان يَقْدِرُ على كَفِّهم، اسْتعانَ بهم، وإن لم يَقْدِرْ، لم يَجُزْ.
فصل: وإذا أظْهَرَ قَوْمٌ رَأىَ الخَوارِجِ، مثلَ تكفيرِ مَن ارْتكبَ كبيرةً، وتَرْكِ الجماعةِ، واستحلالِ دماءِ المسلمينَ وأَمْوالِهم، إلَّا أنَّهم لم يخْرُجُوا عن قَبْضةِ الإِمامِ، ولم يَسْفِكُوا الدَّمَ الحَرامَ، فحَكَى القاضِى عن أبي بكرٍ، أنَّه لا يَحِلُّ بذلك قَتْلُهم ولا قِتالُهم. وهذا قولُ أبي حَنيفَة، والشافعيِّ، وجُمْهورِ أهلِ الفقه. ورُوِيَ ذلك عن عمرَ بنِ عبد العزيز. فعلى هذا، حكمُهم في ضَمانِ النَّفْسِ والمالِ حُكْمُ المسلمين. وإن سَبُّوا الإِمامَ أو غيرَه من أهلِ العدلِ، عُزِّرُوا؛ لأنَّهم ارْتَكَبُوا مُحَرَّمًا لا حَدَّ فيه. وإن عَرَّضُوا