للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويَشْهدُ بما يَجُرُّ إليه نَفْعًا، فأشْبَهَ الشَّهادةَ لنفسِه، ولو قبلْنا قولَه، لم يَشأْ أحدٌ أن يُبْطِلَ شَهادةَ مَن شهِدَ عليه إلَّا أبْطلَها، فتَضِيعَ الحقوقُ، وتذْهَبَ حكْمةُ شَرْعِ البَيِّنَةِ.

فصل: ولا تُقْبلُ شهادةُ المُتَوَسَّمِينَ، وذلك إذا حضرَ مُسافِران، فشهِدَا عندَ حاكمٍ لا يَعْرِفُهما، لم تُقْبَلْ شهادتُهما. وقال مالكٌ: يَقْبلُهما إذا رأَى فيهما سِيما الخَيْرِ؛ لأنَّه لا سبيل إلى معرفةِ عَدالتِهما، ففى التَّوقُّفِ (١٨) عن قُبولِهما تَضْيِيعُ الحُقوقِ، فوجبَ الرُّجوعُ فيهما إلى السِّيماءِ الجميلةِ. ولَنا، أنَّ عَدالتَهما مجهولةٌ، فلم يَجُزِ الحكمُ بشهادتِهما، كشاهِدَىِ الحَضَرِ. وما ذكرَه (١٩) مُعارَضٌ بأنَّ قبولَ شهادتِهما يُفْضِى إلى أنْ يُقضَى بشهادتِهما بدَفْعِ الحقِّ إلى غيرِ مُسْتحِقِّه.

فصل: قال أحمدُ: يَنْبغِى للقاضى أن يسْألَ عن شُهودِه كلَّ قليلٍ؛ لأنَّ الرجلَ يَنْتقِلُ مِن حالٍ إلى حالٍ. وهل هذا مُسْتحَبٌّ أو واجِبٌ؟ فيه وَجْهان؛ أحدُهما، مُستحَبٌّ؛ لأنَّ الأصلَ بقاءُ ما كان، فلا يزُولُ حتى يَثبُتَ الجَرْحُ. والثانى، يجبُ البَحْثُ كلَّما مضَتْ مُدَّةٌ يَتغيَّرُ الحالُ فيها؛ لأنَّ العَيْبَ يحْدُثُ، وذلك على ما يَراهُ الحاكمُ. ولأصحابِ الشَّافعيِّ وَجْهان، مثل هذَيْن.

فصل: وليس للحاكمِ أن يُرَتِّبَ شُهودًا لا يَقْبَلُ غيرَهم؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}. ولأنَّ فيه إضْرارًا بالناسِ؛ لأنَّ كثيرًا مِن الوَقائعِ التى يُحْتاجُ إلى البَيِّنَةِ فيها تَقَعُ عندَ غيرِ المُرَتَّبِينَ، فمتى ادَّعَى إنسانٌ شهادةَ غيرِ المُرتَّبِينَ، وَجَبَ على الحاكمِ سَماعُ بَيِّنَتِه، والنَّظَرُ في عَدالةِ شاهِدَيْه، ولا يجوزُ رَدُّهم بكونِهم مِن غيرِ المُرتَّبِين؛ لأنَّ ذلك يُخالِفُ الكتابَ والسُّنَّةَ والإِجْماعَ، لكنْ له أن يُرتِّبَ شُهودًا يُشْهِدُهم الناسُ، فيَسْتغْنون بإشْهادِهم عن تَعْديلِهم، ويَسْتَغْنِى الحاكمُ عن الكَشْفِ عن أحْوالِهم، فيكونُ فيه تخْفِيفٌ من وَجْهٍ، ويكونون أيضًا يُزَكُّون مَن عَرَفوا عَدالتَه مِن غيرِهم إذا شهِدَ.

فصل: ولا بأْسَ أن يَعِظَ الشاهِدَيْن، كما رُوِىَ عن شُرَيحٍ، أنَّه كان يقولُ للشَّاهِدَيْن إذا


(١٨) في ب: "التوقيف".
(١٩) في الأصل، م: "ذكروه".

<<  <  ج: ص:  >  >>