للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجَرْحِ وقبلَ الزُّهُوقِ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: العَجبُ من أصْحابِ أبى حنيفةَ، أجازُوا تَقْديمَ الزَّكاةِ من غيرِ أَنْ يَرْوُوا فيها مثلَ هذه الآثارِ الوارِدَةِ فى تَقْديمِ الكَفَّارَةِ، ويأبَون تقديمَ الكفَّارَةِ مع كَثْرةِ الرِّوايَةِ الوارِدَةِ فيها، والحُجَّةُ فى السُّنَّةِ، ومَنْ خالَفَها مَحْجُوجٌ بها. فأمَّا أصْحابُ الشافعِىِّ فهم مَحْجُوجُون بالأَحادِيثِ، مع أنَّهم قد احْتَجُّوا بها فى البَعْضِ، وخالَفُوها فى البعض، وفَرَّقُوا بينَ ما جَمَعَ بينَه النَّصُّ. ولأنَّ الصِّيامَ نَوْعُ تَكْفيرٍ، فجازَ قبلَ الحِنْثِ، كالتَّكْفيرِ بالمالِ، وقياسُ الكَفَّارَةِ على الكفّارَةِ، أوْلَى من قياسِها على الصّلاةِ المَفْروضَةِ بأصْلِ الوَضْعِ.

فصل: فأمَّا التَّكْفيرُ قبلَ اليَمِينِ، فلا يجوزُ عندَ أَحَدٍ من العُلَماءِ؛ لأنَّه تَقْديمٌ للحُكْمِ قبلَ سَبَبِه، فلم يَجُزْ، كتَقْديمِ الزَّكاةِ قبلَ مِلْكِ النِّصابِ، وكَفَّارَةِ القَتْلِ قبل الجَرْحِ.

فصل: والتَّكْفيرُ قبلَ الحِنْثِ وبعدَه سَواءٌ فى الفَضِيلَةِ. وقال ابنُ أبى موسى: بعدَه أَفْضَلُ عندَ أحمدَ. وهو قولُ الشافعِىِّ، ومالِكٍ، والثَّوْرِىِّ، لما فيه من الْخُروجِ منِ الخِلافِ، وحُصولِ اليَقِينِ ببَراءَةِ الذِّمَّةِ. ولَنا، أَنَّ الأحادِيثَ الوارِدَةَ فيه، فيها التقديمُ مرَّةً والتَّأْخِيرُ أُخْرَى، وهذا دليلُ التَّسْوِيَةِ، ولأنَّه تَعْجِيلُ مالٍ يجوزُ تَعْجِيلُه قبلَ وُجوبِه، فلم يكُنِ التَّأْخِيرُ أفضلَ، كتَعْجيلِ الزَّكاةِ وكفَّارَةِ القَتْلِ، وما ذكَرُوه مُعارَضٌ بِتَعْجِيلِ (١٢) النَّفْعِ للفقراءِ، والتَّبَرُّعِ بما لم يَجِبْ عليه، وعلى أَنَّ الخِلافَ المُخالِفَ للنُّصوصِ لا يُوجِبُ تَفْضِيلَ المُجْمَعِ عليه، كتَرْكِ الجَمْعِ بين الصَّلاتَيْن.

فصل: وإِنْ كان الحِنْثُ فى اليَمِينِ مَحْظورًا، فعجَّلَ الكَفَّارةَ قبْلَه، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، تُجْزِئُه؛ لأنَّه عجَّلَ الكفَّارَةَ بعدَ سَبَبِها، فأجْزَأَتْه، كما لو كان الحِنْثُ مُباحًا. والثانِى، لا تُجْزِئُه؛ لأنَّ التَّعْجِيلَ رُخْصَةٌ، فلا يُسْتَباحُ بالمَعْصِيَةِ، كالقَصْرِ فى سَفَرِ المعْصِيَةِ، والحديثُ لم يتناولِ المَعْصِيَةَ، فإنَّه قال: "إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَها خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ". وهذا لم يَرَ غيرَها خيرًا منها. ولأَصْحابِ الشافِعِىِّ فى هذا وَجْهان، كما ذَكَرْنا.


(١٢) فى الأصل: "بتعجل".

<<  <  ج: ص:  >  >>