لأنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، اسْتَسْلَفَ من رَجُلٍ بَكْرًا، فَرَدَّ مِثْلَه. ويُخَالِفُ الإتْلَافَ؛ فإنَّه لا مُسَامَحَةَ فيه، فَوَجَبَتِ القِيمَةُ، لأنَّها أحْصَرُ، والقَرْضُ أسْهَلُ، ولهذا جَازَتِ النَّسِيئَةُ فيه فيما فيه الرِّبَا، ويَعْتَبِرُ مثلَ صِفَاتِه تَقْرِيبًا، فإنَّ حَقِيقَةَ المِثْلِ إنَّما تُوجَدُ فى المَكِيلِ والمَوْزُونِ. "فإن تَعَذَّرَ المِثْلُ، فعَلَيْهِ قِيمَتُه يومَ تَعَذَّرَ المِثْلُ، لأنَّ القِيمَةَ ثَبَتَتْ فى ذِمَّتِه حِينَئِذٍ. وإذا قُلْنا: تَجِبُ القِيمَةُ. وَجَبَتْ حين القَرْضِ؛ لأنَّها حيِنَئِذٍ ثَبَتَتْ فى ذِمَّتِه.
فصل: ويَجُوزُ قَرْضُ الخُبْزِ. ورَخَّصَ فيه أبو قِلابَةَ ومالِكٌ. ومنَع منه أبو حنيفةَ. ولَنا، أنَّه مَوْزُونٌ، فجازَ قَرْضُه، كسائِرِ المَوْزُوناتِ. وإذا أقْرَضَه بالوَزْنِ، ورَدَّ مثلَه بالوَزْنِ، جازَ. وإن أخَذَهُ عَدَدًا، فرَدَّهُ عَدَدًا، فقال الشَّرِيفُ أبو جَعْفَرٍ: فيه رِوايَتانِ؛ إحْدَاهما، لا يجوزُ؛ لأنَّه مَوْزُونٌ، أشْبَهَ سَائِرَ المَوْزُوناتِ. والثانية، يجوزُ: قال ابنُ أبى موسى: إذا كان يَتَحَرَّى أن يكونَ مِثْلًا بمِثْلٍ، فلا يَحْتَاجُ إلى الوَزْنِ، والوَزْنُ أحَبُّ إلىَّ. وَوَجْهُ الجَوَازِ، ما رَوَتْ عَائِشَةُ، رَضِىَ اللَّه عنها، قالتْ: قلتُ: يا رسولَ اللَّه، إنَّ الجِيرَانَ يَسْتَقْرِضُونَ الخُبْزَ والخَمِيرَ، ويَرُدُّونَ زِيَادَةً ونُقْصَانًا. فقال: "لَا بَأْسَ، إنَّ ذلِكَ مِنْ مَرَافِقِ النَّاسِ، لَا يُرَادُ بِهِ الْفَضْلُ". ذَكَرَهُ أبو بكرٍ فى "الشَّافِى" بإسْنَادِه. وفيه أيضا، بإسْنَادِه عن مُعَاذِ ابن جَبَلٍ، أنَّه سُئِلَ عن اسْتِقْرَاضِ الخُبْزِ والخَمِيرِ، فقال: سُبْحَانَ اللَّه، إنَّما هذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأخْلَاقِ، فَخُذِ الْكَبِيرَ وَأَعْطِ الصَّغِيرَ، وَخُذِ الصَّغِيرَ وأَعْطِ الكَبيرَ، "خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُم قَضَاءً" (٩). سَمِعْتُ رسولَ اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقولُ ذلك. ولأنًّ هذا ممَّا تَدْعُو الحَاجَةُ إليه، ويَشُقُّ اعْتِبَارُ الوَزْنِ فيه، وتَدْخُلُه المُسَامَحَةُ، فجازَ، كدُخُولِ الحَمَّامِ مِن غيرِ تَقْدِيرِ أُجْرَةٍ، والرُّكُوبِ فى سَفِينَةِ المَلَّاحِ، وأَشْبَاهِ هذا. فإن شَرَطَ أن يُعْطِيَهُ أكْثَرَ ممَّا أقْرَضَه أو أجْوَدَ، أو أعْطَاهُ مثلَ ما أخَذَ وزَادهُ كِسْرَةً،
(٩) وتقدم تخريج هذا اللفظ من حديث أبى رافع فى صفحة ٣٨٨.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute