للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فصل: وأجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ على أن للمُوصِى أن يَرْجِعَ في جَمِيعِ ما أوْصَى به، وفى بعضِه، إلَّا الوَصِيّةَ بالإِعْتاقِ. والأكْثَرُونَ على جَوَازِ الرُّجُوعِ في الوَصِيَّةِ به أيضًا. رُوِى عن عمرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه قال: يُغَيِّرُ الرَّجُلُ ما شاءَ من وَصِيَّتِه. وبه قال عَطَاءٌ، وجابِرُ بن زَيْدٍ، والزُّهْرِيُّ، وقَتَادةُ، ومالِكٌ، والشافِعِيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ. وقال الشَّعْبِىُّ، وابنُ سِيرِينَ، وابنُ شُبْرُمَةَ، والنَّخَعِىُّ: يُغَيِّرُ منها ما شاءَ إلَّا العِتْقَ؛ لأنَّه إعْتاقٌ بعدَ المَوْتِ، فلم يَمْلِكْ تَغْييرَه، كالتَّدْبِيرِ. ولَنا، أنَّها وَصِيّةٌ، فمَلَكَ الرُّجُوعَ عنها، كغيرِ العِتْقِ، ولأنَّها عَطِيّةٌ تَنْجُزُ بالمَوْتِ، فجازَ له الرُّجُوعُ عنها قبلَ تَنْجِيزِها، كهِبَةِ ما يَفْتَقِرُ إلى القَبْضِ قبل قَبْضِه (٢)، وفارَقَ التَّدْبِيرَ، فإنَّه تَعْلِيقٌ على شَرْطٍ، فلم يَمْلِكْ تَغْيِيرَهُ، كتَعْلِيقِه على صِفَةٍ في الحَياةِ.

فصل: ويَحْصُلُ الرُّجُوعُ بقَوْلِه: رَجَعْتُ في وَصيَّتِى. أو أَبْطَلْتُها، أو غَيَّرْتُها. أو ما أوْصَيْتُ به لِفُلانٍ فهو لِفُلانٍ. أو فهو لِوَرَثَتِى. أو في مِيرَاثِى. وإن أكَلَه، أو أطْعَمَه، أو أتْلَفَه، أو وَهَبَه، أو تَصَدَّقَ به، أو باعَه، أو كان ثوْبًا غير مُفَصَّلٍ ففَصَّلَهُ ولَبِسَه، أو جارِيةً فأحْبَلَها، أو ما أشْبَه هذا، فهو رُجُوعٌ. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن أحْفَظُ عنه من أهْلِ العِلْمِ، أنَّه إذا أوْصَى لِرَجُلٍ بطَعَامٍ فأكَلَه، أو بشيءٍ فأتْلَفَه، أو تَصَدَّقَ به، أو وَهَبَه، أو بجَارِيةٍ فأحْبَلَها، أو أوْلَدَها، أنَّه يكونُ رُجُوعًا. وحُكِى عن أصْحابِ الرَّأْى، أنَّ بَيْعَه ليس بِرُجُوعٍ؛ لأنَّه أَخَذَ بَدَلَه، بخِلَافِ الهِبَةِ. ولَنا، أنَّه أزَالَ مِلْكَه عنه، فكان رُجُوعًا، كما لو وَهَبَه. وإن عَرَضَه على البَيْعِ، أو وَصَّى بِبَيْعِه، أو أوْجَبَ الهِبَةَ فلم يَقْبَلْها المَوْهُوبُ له، أو كاتَبَهُ، أو وَصَّى بإعْتاقِه، أو دَبَّرَهُ، كان رُجُوعًا؛ لأنَّه يَدُلُّ على اخْتِيارِه لِلرُّجُوعِ بعَرْضِه على البَيْعِ، وإِيجَابِه لِلْهِبَةِ، ووَصِيَّتِه بِبَيْعِه أو إعْتاقِه، لكَوْنِه وَصَّى بما يُنَافِى الوَصِيّةَ الأُولَى، والكِتَابَةُ بَيْعٌ، والتَّدْبِيرُ أقْوَى من الوَصِيَّةِ؛ لأنَّه يَنْجُزُ بالمَوْتِ، فيَسْبِقُ أخْذَ المُوصَى له. وإن رَهَنَه، كان


(٢) في الأصل: "تقبيضه".

<<  <  ج: ص:  >  >>