للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولَنا، حديثُ أبى بُرْدَةَ، وروى الشَّالَنْجِىُّ بإسْنادِه عن النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: "مَنْ بَلَغَ حدًّا في غيرِ حَدٍّ، فَهُوَ مِنَ المُعْتَدِينَ" (١٥). ولأنَّ العقوبةَ على قدرِ الإِجْرامِ والمَعْصِيَةِ، والمعاصِى المنصوصُ على حُدودِها أعظمُ من غيرِها، فلا يجوزُ أن يبْلُغَ في أهْونِ الأمرَيْنِ عُقوبةَ أعْظَمِهما. وما قالوه يُؤَدِّى إلى أنَّ من قَبَّلَ امرأةً حَرامًا، يُضْربُ أكثرَ من حَدِّ الزِّنَى، وهذا غيرُ جائزٍ؛ لأنَّ الزِّنَى مع عِظَمِه وفُحْشِه، لا يجوزُ أن يُزادَ على حَدِّه، فما دونَه أوْلَى. فأمَّا حديثُ مَعْنٍ، فيَحْتَمِلُ أنَّه كانت له ذُنوبٌ كثيرةٌ، فَأُدِّبَ على جميعِها، أو تكرَّرَ منه الأخْذُ، أو كَانَ ذَنْبُه مُشْتَمِلًا على جناياتٍ أحَدُها تَزْويرُه، والثانى أخْذُه لمالِ بيتِ المالِ بغير حَقِّه، والثالثُ فَتْحُه بابَ هذه الحِيلَةِ لغيرِه، وغيرُ هذا. وأمَّا حديثُ النَّجَاشِىِّ، فإنَّ عليًّا ضربَه الحَدَّ لشُرْبِه، ثم عَزَّرَه عشرين لفِطْرِه، فلم يبلُغْ بتَعْزِيرِه حَدًّا. وقد ذهبَ أحمدُ إلى هذا، ورأَى (١٦) أنَّ من شَرِبَ الخمرَ في رمضانَ يُحَدُّ، ثم يعزَّرُ لجنايتِه مِن وَجْهين. والذي يدُلُّ على صِحَّةِ ما ذكرْناه، ما رُوِىَ أنَّ عمرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، كتبَ إلى أبى موسى، أنْ لا يَبْلُغَ (١٧) بنَكالٍ أكثرَ من عشرين سَوْطًا (١٨).

فصل: والتَّعْزيرُ يكونُ بالضَّرْبِ والحَبْسِ والتَّوْبيخ. ولا يجوزُ قَطْعُ شَىْءٍ منه، ولا جَرْحُه، ولا أخْذُ مالِه؛ لأنَّ الشَّرْعَ لم يَرِدْ بشيءٍ من ذلك عن أحَدٍ يُقْتَدَى به، ولأنَّ الواجِبَ أَدَبٌ، والتأديبُ لا يكونُ (١٩) بالإِتْلافِ.

فصل: والتَّعْزِيرُ فيما شُرِعَ فيه التَّعْزيرُ واجِبٌ، إذا رآه الإِمامُ. وبه قال مالِكٌ، وأبو حنيفةَ، وقال الشَّافِعِىُّ: ليس بواجِبٍ؛ لأنَّ رجلًا جاءَ إلى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إنِّي لَقِيتُ


(١٥) وأخرجه البيهقي، في: باب ما جاء في التعزير وأنه لا يبلغ به أربعين، من كتاب الأشربة والحد فيها. السنن الكبرى ٨/ ٣٢٧.
(١٦) في م: "وروى".
(١٧) في م: "يبغ".
(١٨) أخرجه عبد الرزاق، في: باب لا يبلغ بالحدود العقوبات، من كتاب الطلاق. المصنف ٧/ ٤١٣.
(١٩) في ب زيادة: "إلا".

<<  <  ج: ص:  >  >>