للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأمَّا إن عَزَلَه الإِمامُ الذى ولَّاه أو غيرُه، ففيه وَجْهان، أحدُهما: لا يَنْعَزِلُ. وهو مذهبُ الشَّافعىِّ؛ لأنَّه عَقَدَه لمصْلحةِ المُسلمين، فلم يَمْلِكْ عَزْلَه مع سَدادِ حالِه، كما لو عَقَد النِّكاحَ على مُوَلِّيَتِه، لم يكُنْ له فَسْخُه. والثانى، له عَزْلُه؛ لِما رُويَ عن عمرَ، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه قال: لأعْزِلَنَّ أبا مَرْيَمَ (١٩)، وأُوَلِّيَنَّ رجلًا إذا رآه الفاجرُ فَرِقَه (٢٠). فعَزلَه عن قضاءِ البَصْرةِ، وولَّى كَعْبَ بنَ سُورٍ مكانَه (٢١). ووَلَّى علىٌّ، رَضِىَ اللهُ عنه، أبا الأسْوَدِ، ثم عَزَلَه، فقال: لمَ عزلْتَنى، وما خُنتُ، ولا جَنَيْتُ؟ فقال: إنِّى رأيتُكَ يَعْلُو كلامُك على الخَصْمَيْن (٢٢). ولأنَّه يَمْلِكُ عَزْلَ أُمَرائِه ووُلاتِه على البُلْدان، فكذلك قُضاتِه. وقد كانَ عمرُ، رَضِىَ اللهُ عنه، يُوَلِّى ويَعْزِلُ، فعَزلَ شُرَحْبِيلَ بنَ حَسَنَةَ عن ولايَتِه فى الشَّامِ، وولَّى مُعاويةَ، فقال له شُرَحْبِيلٌ: أمِن جُبنٍ عَزَلْتَنِى، أو خِيانةٍ؟ قال: مِن كلٍّ لا، ولكن أردْتُ رجلًا أقْوَى مِن رجلٍ. وعزلَ خالدَ بنَ الوليدِ، وولَّى أبا عُبيدَةَ. وقد كان يُوَلِّى بعضَ الولاةِ الحُكْمَ مع الإمارةِ، فولَّى أبا موسى البصرةَ قضاءَها وإمْرتَها. ثم كان يعزِلُهم هو (٢٣)، ومَن لم يَعْزِلْه، عزلَه عثمانُ بعدَه إلَّا القليلَ منهم. فعَزْلُ القاضى أولَى، ويُفارِقُ عَزْلَه بمَوْتِ مَن ولَّاه أو عَزَلَه؛ لأنَّ فيه ضَرَرًا، وهاهُنا لا ضَرَرَ فيه؛ لأنَّه لا يَعْزِلُ قاضيًا حتى يُوَلِّىَ آخَرَ مكانَه، ولهذا لا يَنْعَزِلُ الوالى بمَوْتِ الإِمامِ، ويَنْعَزلُ بعَزْلِه. وقد ذكرَ أبو الخطَّابِ فى عَزْلِه بالموتِ أيضًا وَجْهَيْن، والأوْلَى، إن شاءَ اللهُ تعالى، ما ذكَرْناه. فأمَّا إن تغيَّرتْ حالُ القاضى؛ بفِسْقٍ، أو زَوالِ عقلٍ، أو مرضٍ يَمنعُه مِن القضاءِ، أو اخْتلَّ فيه بعضُ شُروطِه، فإنَّه يَنْعَزِلُ بذلك، ويتَعيَّنُ على الإمامِ عَزْلُه، وَجْهًا واحدًا.

فصل: وللإِمامِ تَوْلِيَةُ القضاءِ فى بلدِه وغيرِه؛ لأنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَّى عمرَ بنَ الخَطَّابِ القضاءَ (٢٤)، وولَّى عليًّا (٢٥) ومُعاذًا (٢٦). وقال عثمانُ بنُ عَفَّانَ لابنِ عمرَ: إنَّ أباك قد كان


(١٩) هو إياس بن صبيح بن محرش الحنفى. انظر ترجمته فى: أخبار القضاة، لوكيع ١/ ٢٦٩.
(٢٠) فرقه: خافه.
(٢١) تقدم تخريجه، فى: صفحة ١٨.
(٢٢) انظر: إرواء الغليل ٨/ ٢٣٤.
(٢٣) انظر لذلك كله: تاريخ الطبرى ٤/ ٦٤ - ٦٩.
(٢٤) انظر ما أخرجه وكيع، فى: أخبار القضاة ١/ ١٠٥.
(٢٥) تقدم تخريجه، فى: صفحة ٦.
(٢٦) تقدم تخريجه، فى: ١/ ٢٧٥، ٤/ ٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>