منه إنْباتُ اللَّحْمِ وإنْشازُ العَظْمِ، فحَرَّمَ، كما لو كان غالِبًا، وهذا فيما إذا كانت صِفاتُ اللَّبَنِ باقِيَةً، فأمَّا إن صُبَّ في ماءٍ كثيرٍ لم يتَغَيَّرْ به، لم يَثْبُتْ به التَّحْريمُ؛ لأنَّ هذا ليس بلَبَنٍ مَشُوبٍ، ولا يَحْصُلُ به التَّغَذِّى، ولا إنْباتُ اللَّحْمِ ولا إنشازُ العَظْمِ. وحُكِىَ عن القاضي، أنَّ التَّحْريمَ يَثْبُتُ به. وهو قولُ الشافعيِّ؛ لأنَّ أَجْزاءَ اللَّبنِ حَصَلَتْ في بَطْنِه (٣)، فأشْبَهَ ما لو كان لَوْنُه ظاهِرًا. ولَنا، أنَّ هذا ليس برَضاعٍ، ولا في مَعْناه، فوَجَبَ أن لا يَثْبُتَ حُكْمُه فيه.
فصل: وإن حُلِبَ من نِسْوَةٍ، وسُقِيَهُ الصَّبِيّ، فهو كما لو ارْتَضَعَ من كلِّ واحدةٍ منهنَّ؛ لأنَّه لو شِيبَ بماءٍ أو عَسَلٍ، لم يَخْرُجْ عن كَوْنِه رَضاعًا مُحَرِّمًا، فكذلك إذا شِيبَ بلَبَنٍ آخَرَ.
المنصوصُ عن أحمدَ، في روايةِ إبراهيمَ الحَرْبِيِّ، أنَّه يَنْشُرُ الحُرْمةَ. وهو اخْتيارُ أبي بكرٍ. وهو قولُ أبي ثَوْرٍ، والأوْزَاعيِّ، وابنِ القاسمِ، وأصْحابِ الرَّأْىِ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال الخَلَّالُ: لا يَنْشُرُ الحُرْمَةَ. وتَوَقّفَ عنه أحمدُ، في رِوايةِ مُهَنَّا. وهو مَذَهَبُ الشافعيِّ؛ لأنَّه لَبَنٌ ممَّن ليس بمَحَلٍّ للوِلادةِ، فلم يتَعَلَّقْ به التَّحْرِيمُ. كَلَبنِ الرَّجُلِ. ولَنا، أنَّه وُجِدَ الارْتِضاعُ، على وَجْهٍ يُنْبِتُ اللَّحْمَ ويُنْشِزُ العَظْمَ، من امرأةٍ، فأثْبَتَ التَّحْريمَ، كما لو كانت حَيّةً، ولأنَّه لا فارِقَ بين شُرْبِه في حَياتِها ومَوْتِها إلَّا الحياةُ والمَوْتُ أو النّجاسَةُ، وهذا لا أثَرَ له، فإنَّ اللَّبَنَ لا يَمُوتُ، والنَّجاسةُ لا تَمْنَعُ، كما لو حُلِبَ في وِعَاءٍ نَجِسٍ، ولأنَّه لو حُلِبَ منها في حَياتِها، فشَرِبَه بعدَ مَوْتِها، لنَشَرَ الحُرْمةَ، وبَقاؤُه في ثَدْيِها لا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الحُرْمةِ؛ لأنَّ ثَدْيَها لا يَزِيدُ على الإِناءِ في عَدَمِ الحياةِ، وهى لا تَزِيدُ على عَظْمِ المَيْتَةِ في ثُبُوتِ النَّجاسةِ.