للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبهذا قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ، وقال أبو بكرٍ: يُقْطَعُ، ولا يَفْتَقِرُ إلى دَعْوَى ولا مُطالبةٍ. وهذا قولُ مالِكٍ، وأبى ثَوْرٍ، وابنِ المُنْذِرِ؛ لعمومِ الآيةِ، ولأنَّ مُوجِبَ القَطْعِ ثَبتَ، فوجبَ من غيرِ مُطالبَةٍ، كحَدِّ الزِّنَى. ولَنا، أنَّ المالَ يُبَاحُ بالبَذْلِ والإِباحةِ، فيَحْتَمِلُ أنَّ مالكَه أباحَه إيَّاه (١)، أو وَقَفَهُ على المسلمين، أو على طائفةِ السَّارِقِ منهم، أو أَذِنَ له في دُخولِ حِرْزِه، فاعتُبِرَتِ المُطالبَةُ لِتَزُولَ هذه الشُّبْهةُ، وعلى هذا يخْرُجُ الزِّنَى، فإنَّه لا يُباحُ بالإِباحَةِ، ولأنَّ القطعَ أوْسَعُ في الإِسْقاطِ، أَلَا تَرَى أنَّه إذا سَرَقَ مالَ أبيه (٢) لم يُقْطَعْ، ولو زَنَى بجارِيَتِه حُدَّ؟ ولأنَّ القطعَ شُرِعَ لِصيانَةِ مالِ الآدَمِىِّ، فله به تَعَلُّقٌ، فلم يُسْتَوْفَ من غيرِ حُضورِ مُطالِبٍ به، والزِّنَى حَقٌّ للَّه تعالى مَحْضٌ، فلم يفْتَقِرْ إلى طَلَبٍ به. إذا ثبتَ هذا، فإنَّ وكيلَ المالِكِ يقومُ مَقامَه في الطَّلَبِ. وقالَ القاضي: إذا أقرَّ بسَرِقَةِ مالِ غائِبٍ، حُبِسَ حتى يحْضُرَ الغائبُ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ أن يكونَ قد أباحَه، ولو أقرَّ بحقٍّ مُطْلَقٍ لغائِبٍ لم يُحْبَسْ؛ لأنَّه لا حَقَّ عليه لغيرِ الغائبِ، ولم يأْمُرْ بحَبْسِه، فلم يُحْبَسْ، وفي مسألتِنا تَعَلَّقَ به حَقُّ اللَّه تعالى، وحَقُّ الآدَمِىِّ، فَحُبِسَ؛ لِمَا عليه من حَقِّ اللهِ تعالى، فإن كانَت العين في يدِه، أَخذَها الحاكمُ، وحَفِظَها للغائب، وإن لم يكُنْ في يدِه شيءٌ، فإذا جاءَ الغائِبُ كان الخَصْمَ فيها.

فصل: ولو أقرَّ بسرقةٍ من رجلٍ، فقال المالِكُ: لم تَسْرِقْ مِنِّى، ولكنْ غَصَبْتَنِى. أو: كان لي قِبَلَكَ وَدِيعَةٌ فَجَحَدْتَنِى. لم يُقْطَعْ؛ لأنَّ إقْرارَه لم يُوافِقْ دَعْوَى المُدَّعِى. وبهذا قال أبو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. وإنْ أقرَّ أنَّه سرَقَ نِصابًا من رجلَيْن، فصدَّقَه أحدُهما دُونَ الآخَرِ، أو قالَ الآخَرُ: بل غَصَبْتَنِيهِ أو جَحَدْتَنِيه. لم يُقْطَعْ. وبه قال أصْحابُ الرَّأْىِ. وقال أبو ثَوْرٍ: إذا قال الآخَرُ: غَصَبْتَنِيه أو جَحَدْتَنِيه. قُطِعَ. ولَنا، أنَّه لم يُوافِقْ (٣) على سَرِقةِ نصابٍ، فلم يُقْطَعْ، كالتى قبلَها، وإن وافَقاه جميعًا، قُطِعَ.


(١) في ب: "له".
(٢) في النسخ: "ابنه".
(٣) في م: "يوفق".

<<  <  ج: ص:  >  >>