وكذلك الهِبَةُ والهَدِيّةُ، لِدَلَالةِ الحالِ، فكذلك ههُنا. وأمَّا الوَقْفُ على المَسَاكِينِ، فلم تَجْرِ به عادَةٌ بغير لَفْظٍ، ولو كان شيءٌ جَرَتْ به العادَةُ، أو دَلَّتْ الحالُ عليه، كان كمَسْأَلَتِنا. واللَّه أعلمُ.
وجملةُ ذلك أنَّ مَنْ وَقَفَ شَيْئًا وَقْفًا صَحِيحًا، فقد صارَتْ مَنَافِعُه جَمِيعُها لِلْمَوقُوفِ عليه، وزَالَ عن الواقِفِ مِلْكُه، ومِلْكُ مَنَافِعِه، فلم يَجُزْ أن يَنْتَفِعَ بشيءٍ منها، إلَّا أن يكونَ قد وَقَفَ شَيْئًا لِلْمُسْلِمينَ، فيَدْخُلُ في جُمْلَتِهِم، مثل أن يَقِفَ مَسْجِدًا، فله أن يُصَلِّىَ فيه، أو مَقْبَرةً فله الدَّفْنُ فيها، أو بِئرًا للمُسْلِمِينَ، فله أن يَسْتَقِىَ منهَا، أو سِقَايةً، أو شَيْئًا يَعُمُّ المُسْلِمِينَ، فيكونُ كأحَدِهِم. لا نَعْلَمُ في هذا كله خِلَافًا. وقد رُوِى عن عثمانَ بن عَفَّانَ، رَضِىَ اللَّه عنه، أنَّه سَبَّلَ بِئْرَ رُومَة، وكان دَلْوُه فيها كدِلَاءِ المُسْلِمِينَ.
وجملتُه أنَّ الواقِفَ إذا اشْتَرَطَ في الوَقْفِ أن يُنْفِقَ منه على نَفْسِه، صَحَّ الوَقْفُ والشَّرْطُ. نَصَّ عليه أحمدُ. قال الأثْرَمُ: قيل لأبي عبدِ اللَّه: يَشْتَرِطُ في الوَقْفِ أنِّى أُنْفِقُ على نَفْسِى وأهْلِى منه؟ قال: نعم. واحْتَجَّ، قال: سَمِعْتُ ابنَ عُيَيْنةَ، عن ابن طاوُسٍ، عن أبيه، عن حُجْرٍ المَدَرِىِّ، أنَّ في صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يَأْكُلَ منها أهْلُه بالمَعْرُوفِ غيرِ المُنْكَرِ. وقال القاضي: يَصِحُّ الوَقْفُ، رِوَايةً واحِدَةً؛ لأنَّ أحمدَ نَصَّ عليها في رِوَايةِ جماعةٍ. وبذلك قال ابنُ أبي لَيْلَى، وابنُ شُبْرُمةَ، وأبو يوسفَ، والزُّبَيْرُ، وابنُ سُرَيْجٍ. وقال مالِكٌ، والشافِعِىُّ، ومحمدُ بن الحَسَنِ: لا يَصِحُّ الوَقْفُ؛ لأنَّه إزَالَةُ المِلْكِ، فلم يَجُز اشْتِرَاطُ نَفْعِه لِنَفْسِه، كالبَيْعِ والهِبَةِ، وكما لو أعْتَقَ عَبْدًا بِشَرْطِ أن يَخْدِمَه، ولأنَّ ما يُنْفِقُه على نَفْسِه مَجْهُولٌ، فلم يَصِحَّ اشْتِرَاطُه، كما لو باعَ شيئًا واشْتَرَطَ أن يَنْتَفِعَ به. ولَنا، الخَبَرُ الذي ذَكَرَه الإِمامُ أحمدُ، ولأنَّ عمَرَ