للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَجَرَ على مُعَاذٍ، وبَاعَ مَالَهُ في دَيْنِه. رَوَاهُ الخَلَّالُ بإِسْنَادِه (٤). وَرُوِيَ عن عمرَ بن الخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّه عنه، أنَّه خَطَبَ الناسَ، وقال: ألا إنَّ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ قد رَضِيَ من دينِهِ وأمَانَتِه بأن يُقال: سَبَقَ الحَاجَّ، فادَّانَ مُعْرِضًا، فأصْبح وقد رِين (٥) به، فمَن كان له عليه مَالٌ فَلْيَحْضُرْ غَدًا، فإنَّا بائِعُو مَالِه، وقَاسِمُوهُ بين غُرَمَائِه. ولأنَّه مَحْجُورٌ عليه، مُحْتَاجٌ إلى قَضَاءِ دَيْنِه، فجَازَ بَيْعُ مَالِه بغيرِ رِضَاهُ، كالصَّغِيرِ والسَّفِيهِ، ولأنَّه نَوْعُ مَالٍ، فجازَ بَيْعُه في قَضَاءِ دَيْنِه، كالأثْمَانِ. وقِيَاسُهم يَبْطُلُ بِبَيْعِ الدَّرَاهِمِ بالدَّنَانِيرِ. إذا ثَبَتَ هذا عُدْنَا إلى مَسْألةِ الكِتَابِ، فنقولُ: ما فَعَلَهُ المُفْلِسُ قبلَ حَجْرِ الحَاكِمِ عليه، من بَيْعٍ، أو هِبَةٍ، أو إقْرَارٍ، أو قَضَاءِ بعض الغُرَمَاءِ، أو غيرِ ذلك، فهو جَائِزٌ نَافِذٌ. وبهذا قال أبو حنيفةَ، ومالِكٌ، والشَّافِعِيُّ. ولا نَعْلَمُ أحَدًا خَالَفَهم. ولأنَّه رَشِيدٌ غيرُ مَحْجُورٍ عليه، فنَفَذَ تَصَرُّفُه كغيرِه، ولأنَّ سَبَب المَنْعِ الحَجْرُ، فلا يَتَقَدَّمُ سَبَبَهُ، ولأنَّه من أهْلِ التَّصَرُّفِ، ولم يُحْجَرْ عليه، فأشْبَه المَلِىءَ، وإن أكْرَى (٦) جَمَلًا بِعَيْنِه، أو دَارًا، لم تَنْفَسِخْ إجَارَتُه بالفَلَسِ، وكان المُكتَرِى أحَقَّ به، حتى تَنْقَضِىَ مُدَّتُه.

فصل: ومتى حُجِرَ عليه، لم يَنْفُذْ تَصَرُّفُه في شيْءٍ من مَالِه، فإن تَصَرَّفَ بِبَيْعٍ، أو هِبَةٍ، أو وقْفٍ، أَو أصْدَقَ امْرأةً مَالًا له، أو نحو ذلك، لم يَصِحَّ. وبهذا قال مَالكٌ، والشَّافِعِيُّ في قولٍ، وقال في آخَرَ: يَقِفُ تَصَرُّفُه، فإن كان فيما بَقِيَ من مَالِه وفاءُ الغُرَمَاء نَفَذَ، وإلَّا بَطَلَ. ولَنا، أنَّه مَحْجُورٌ عليه بِحُكْمِ حَاكِمٍ، فلم يَصِحَّ تَصَرُّفُه، كالسَّفِيهِ، ولأنَّ حُقُوقَ الغُرَمَاءِ تَعَلَّقَتْ بأعْيَانِ مَالِه، فلم يَصِحَّ تَصَرُّفُه فيها، كالمَرْهُونَةِ. فأمَّا إن تَصَرَّفَ في ذِمَّتِه، فاشْتَرَى، أو اقْتَرَضَ، أو تَكَفَّلَ، صَحَّ تَصَرُّفُه؛ لأنَّه أهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ، وإنَّما وُجِدَ في حَقِّه الحَجْرُ، والحَجْرُ


(٤) تقدم تخريجه في صفحة ٥٣٨.
(٥) رين به: أحاط بماله الدين وعلته الديون. وانظر حديث أسيفع جهينة عند البيهقي، في: باب الحجر على المفلس، من كتاب التفليس، السنن الكبرى ٦/ ٤٩.
(٦) في الأصل: "اكترى".

<<  <  ج: ص:  >  >>