فصل: الشَّرْط الثالث، أن لا يكونَ البَائِعُ قَبَضَ من ثَمَنِها شيئا. فإن كان قد قَبَضَ بعضَ ثَمَنِها، سَقَطَ حَقُّ الرُّجُوعِ. وبهذا قال إسحاقُ، والشَّافِعِىُّ فى القَدِيمِ، وقال فى الجَدِيدِ: له أن يَرْجِعَ فى قَدْرِ ما بَقِىَ من الثَّمَنِ؛ لأنَّه سَبَبٌ تَرْجِعُ به العَيْنُ كلُّها إلى العَاقِدِ، فجازَ أن يَرْجِعَ به بعضُها، كالفُرْقَةِ قبلَ الدُّخُولِ فى النِّكَاحِ. وقال مالِكٌ: هو مُخَيَّرٌ، إن شَاءَ رَدَّ ما قَبَضَهُ ورَجَعَ فى جَمِيعِ العَيْنِ، وإن شَاءَ حَاصَّ الغُرَماءَ ولم يَرْجِعْ. ولَنا، ما رَوَى أبو بَكْرِ بن عبد الرحمنِ، عن أبى هُرَيْرَةَ: أنَّ رسولَ اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال:"أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ سِلْعَةً، فأَدْرَكَ سِلْعَتَه بِعَيْنِها عند رَجُلٍ قَدْ أفْلَسَ، ولم يَكُنْ قَدْ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِها شَيْئًا، فَهِىَ لَهُ، وَإنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِها شَيْئًا، فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ". رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وابنُ مَاجَه، والدَّارَقُطْنِىُّ (٢٤). ولأنَّ فى الرُّجُوعِ فى قِسْطِ ما بَقِىَ تَبْعِيضًا لِلصَّفْقَةِ على المُشْتَرِى، وإضْرَارًا به، وليس ذلك لِلْبَائِعِ. فإن قيل: لا ضَرَرَ عليه فى ذلك؛ لأنَّ مَالَهُ يُبَاعُ، ولا يَبْقَى له، فيَزُولُ عنه الضَّرَرُ. قُلْنا: لا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بالبَيْعِ؛ فإنَّ قِيمَتَهُ تَنقُصُ بالتَّشْقِيصِ، ولا يُرْغَبُ فيه مُشَقَّصًا، فيَتَضَرَّرُ المُفْلِسُ والغُرَمَاءُ بِنَقْصِ القِيمَةِ. ولأنَّه سَبَبٌ يُفْسَخُ به البَيْعُ، فلم يَجُزْ تشْقِيصُه، كالرَّدِّ بالعَيْبِ والخِيَارِ، وقِيَاسُ البَيْعِ على البَيْعِ أوْلَى من قِيَاسِه على النِّكَاحِ. ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ المَبِيعِ عَيْنًا واحِدَةً، أو عَيْنَيْنِ، لما ذَكَرْنا من الحَدِيثِ والمَعْنَى. فإن قِيل: حَدِيثُكم يَرْوِيه أبو بكرِ بن عبد الرحمنِ، عن النَّبِىِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرْسَلًا، ولا حُجَّةَ فى المَرَاسِيلِ. قُلْنا: قد رَوَاهُ مالِكٌ ومُوسَى بن عُقْبَةَ، عن الزُّهْرِىِّ، عن أبى بكرِ بن عبد الرَّحْمَنِ، عن أبى هُرَيْرَةَ، كذلك ذَكَرَه ابنُ عبدِ البَرِّ، وأخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ وابنُ مَاجَه والدَّارَقُطْنِىُّ فى "سُنَنِهِم" مُتَّصِلًا، فلا يَضُرُّ إِرْسَالُ مَن أَرْسَلَهُ، فإنَّ رَاوِى المُسْنَدِ معه زِيَادَةٌ لا يُعَارِضُها تَرْكُ مُرْسِلِ الحَدِيثِ لها، وعلى أن المُرْسَلَ حُجَّةٌ، فلا يَضُرُّ إرْسَالُه.
(٢٤) أخرجه أبو داود، فى: باب فى الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده. . .، من كتاب البيوع. سنن أبى داود ٢/ ٢٥٧. وابن ماجه، فى: باب من وجد متاعه بعينه عند رجل. . .، من كتاب الأحكام، سنن ابن ماجه ٢/ ٧٩٠. والدارقطنى، من كتاب البيوع. سنن الدارقطنى ٣/ ٣٠.