للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النَّهْىَ عن البَيْعِ لِلرِّفْقِ بأهْلِ الحَضَرِ، لِيَتَّسِعَ عليهم السِّعْرُ، ويَزُولَ عنهم الضَّرَرُ، وليس ذلك فى الشِّراءِ لهم، إذ لا يَتَضَرَّرُونَ، لِعَدَمِ الغَبْنِ لِلْبَادِينَ، بل هو دَفْعُ الضَّرَرِ عنهم، والخَلْقُ فى نَظَرِ الشَّارِعِ على السَّوَاءِ، فكما شَرَعَ ما يَدْفَعُ الضَّرَرَ عن أهْلِ الحَضَرِ، لا يَلْزمُ أن يَلزَمَ أهْلُ البَدْوِ الضَّرَرَ. وأمَّا إن أشارَ الحاضِرُ على البادِى من غيرِ أن يُبَاشِرَ البَيْعَ له، فقد رَخَّصَ فيه طَلْحَةُ بنُ عَبَيْدِ اللهِ، والأوْزَاعِىُّ، وابنُ المُنْذِرِ، وكَرِهَهُ مالِكٌ، واللَّيْثُ، وقولُ الصَّحَابِىِّ حُجَّةٌ، ما لم يَثْبُتْ خِلَافُه.

فصل: قال ابنُ حامِدٍ: ليس للإمامِ أن يُسَعِّرَ على النَّاسِ، بل يَبِيعُ النَّاسُ أمْوالَهُم على ما يَخْتارُونَ. وهذا مَذْهَبُ الشَّافِعِىِّ. وكان مالِكٌ يقول: يُقالُ لمن يُرِيدُ أن يَبِيعَ أقَلَّ مِمَّا يَبِيعُ النَّاسُ به: بعْ كما يَبِيعُ النَّاسُ، وإلَّا فَاخْرُجْ عنَّا. واحْتَجَّ له بما رَوَى الشَّافِعِىُّ، وسعيدُ بنُ منصورٍ، عن داودَ بنِ صالحٍ التَّمَّارِ، عن القاسمِ بن محمدٍ، عن عمرَ، أنَّه مَرَّ بحَاطِبٍ (٥) فى سُوقِ المُصَلَّى، وبين يَدَيْهِ غِرَارَتَانِ فيهما زَبِيبٌ، فسَأَلَهُ عن سِعْرِهِما، فسَعَّرَ لَه مُدَّيْنِ بكلِّ دِرْهَمٍ، فقال له عمرُ: قد حُدِّثْتُ بِعِيرٍ مُقْبِلَةٍ من الطَّائِفِ تَحْمِلُ زَبِيبًا، وهم يَعْتَبِرُونَ بِسِعْرِكَ، فإمَّا أن تَرْفَعَ فى السِّعْرِ، وإمَّا أن تُدْخِلَ زَبِيبَكَ فتَبِيعَهُ كيف شِئْتَ (٦). ولأنَّ فى ذلك إضْرارًا بالنَّاسِ إذا زادَ تَبِعَهُ أصْحابُ المَتاعِ، وإذا نَقَصَ أضَرَّ بأَصْحَابِ المَتَاعِ. ولنا، ما رَوَى أبو داودَ، والتِّرْمِذِىُّ، وابنُ ماجَه، عن أنَسٍ قال: غَلَا السِّعْرُ على عَهْدِ رسولِ اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: يا رسولَ اللَّه، غلا السِّعْرُ، فَسَعِّرْ لنا. فقال: "إنَّ اللهَ هُوَ المُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازق، إنِّى لَأَرْجُو أنْ أَلْقَى اللهَ تَعَالَى وَلَيْسَ أَحَدٌ يَطْلُبُنِى بمَظْلِمَةٍ، فى


(٥) هو حاطب ابن أبي بلتعة صحابى جليل، شهد بدرًا، وهو صاحب القصة المشهورة بكتابه إلى المشركين لما أراد النَّبِيّ أن يغزو مكة، وبعثه النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المقوقس. توفى سنة ثلاثين فى خلافة عثمان. الإصابة ٢/ ٤ - ٦.
(٦) أخرجه الإِمام مالك، مختصرًا، فى: باب الحكرة والتربص، من كتاب البيوع. الموطأ ٢/ ٦٥١. والبيهقى، فى: باب التسعير، من كتاب البيوع. السنن الكبرى ٦/ ٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>