للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مالِ المُفْلِسِ، فوَجَبَ صَرْفُه في دَيْنِه، كسَائِرِ مَالِه. ولَنا، أنَّ هذا ممَّا لا غِنًى لِلْمُفْلِسِ عنه، فلم يُصْرَفْ في دَيْنِه، كثِيَابِه وقُوتِه، والحَدِيثُ قَضِيَّةٌ في عَيْنٍ، ويَحْتَمِلُ أنَّه لم يكن له عَقَارٌ، ولا خَادِمٌ، ويَحْتَمِلُ أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ" ممَّا تُصُدِّقَ به عليه، فإنَّ المَذْكُورَ قبلَ ذلك، كذلك رُوِيَ أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ". فتَصَدَّقُوا عليه، فلم يَبْلُغْ ذلك وَفَاءَ دَيْنِه، فقال النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ". أي ممَّا تُصُدِّقَ به عليه، والظَّاهِرُ أنَّه لم يُتَصَدَّقْ عليه بِدَارٍ وهو مُحْتَاجٌ إلى سُكْنَاهَا، ولا خَادِمٍ وهو مُحْتَاجٌ إلى خِدْمَتِه، ولأنَّ الحَدِيثَ مَخْصُوصٌ بِثِيَابِ المُفْلِسِ وقُوتِه، فنَقِيسُ عليه مَحلَّ النِّزَاعِ، وقِيَاسُهم مُنْتَقِضٌ بذلك أيضا، وبَأَجْرِ المَسْكَنِ، وسَائِر مَالِه يَسْتَغْنِى عنه، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.

فصل: وإن كان له دَارَانِ يَسْتَغْنِى بِسُكْنَى إحْدَاهما، بِيعَتِ الأُخْرَى؛ لأنَّ به غِنًى عن سُكْنَاها. وإن كان مَسْكَنُه وَاسِعًا، لا يَسْكنُ مِثْلُه في مِثْلِه، بِيعَ، واشْتُرِىَ له مَسْكَنُ مِثْلِه، ورُدَّ الفَضْلُ على الغُرَمَاءِ، كالثِّيَابِ التي له إذا كانت رَفِيعَةً لا يَلْبَسُ مثلُه مثلَها. ولو كان المَسْكَنُ والخَادِمُ اللَّذَيْن لا يَسْتَغْنِى عنهما عَيْنَ مَالِ بعضِ الغُرَمَاءِ، أو كان جَمِيعُ مَالِه أعْيَانَ أمْوَالٍ أفْلَسَ بأثْمَانِها، وَوَجَدَها أصْحَابُها، فلهم أخْذُها، بالشَّرَائِطِ التي ذَكَرْنَاهَا؛ لقولِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أفْلَسَ، فَهُوَ أحَقُّ بِهِ" (٣). ولأنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بالعَيْنِ، فكان أقْوَى سَبَبًا من المُفْلِسِ، ولأنَّ الإعْسارَ بالثَّمَنِ سَبَبٌ يَسْتَحِقُّ به الفَسْخَ، فلم يَمْنَعْهُ (٤) منه تَعَلُّقُ حَاجَةِ المُشْتَرِى، كما قبلَ القَبْضِ، وكالعَيْبِ والخِيَارِ. ولأنَّ مَنْعَهم من أخْذِ أعْيَانِ أمْوالِهم يَفْتَحُ بَابَ الحِيَلِ، بأن يَجِىءَ مَن لا مَالَ له، فيَشْتَرِىَ في ذِمَّتِه ثِيَابًا يَلْبَسُها، ودَارًا يَسْكُنُها، وخَادِمًا يَخْدِمُه، وفَرَسًا يَرْكَبُها، وطَعَامًا له ولِعَائِلَتِه، ويَمْتَنِعَ على أرْبَابِهَا أخْذُها؛ لِتَعَلُّقِ حَاجَتِه بها، فتَضِيعَ أمْوَالُهم ويَسْتَغْنِىَ هو بها. فعلى هذا


(٣) تقدم تخريجه في صفحة ٥٣٩.
(٤) في أ: "يمنع".

<<  <  ج: ص:  >  >>