للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِهِم على هذا، ولا يكونُ في المَسْألةِ قائلٌ بالتَّحْرِيمِ. وإذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه يُكْرَهُ لِلْحُرِّ أكْلُ كَسْبِ الحَجَّامِ، ويُكْرَهُ تَعَلُّمُ صِنَاعةِ الحِجَامةِ، وإجَارَةُ نَفْسِه لها؛ لما فيها من الأخْبارِ، ولأنَّ فيها دَناءَةً، فكُرِهَ (١٢) الدُّخُولُ فيها، كالكَسْحِ. وعلى هذا يُحْمَلُ قولُ الأئِمَّةِ الذين ذَكَرْنا عنهم كَرَاهَتَها، جَمْعًا بين الأخْبارِ الوارِدَةِ فيها، وتَوْفِيقًا بين الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ عليها. واللَّه أعلمُ.

فصل: فأمَّا اسْتِئْجارُ الحَجَّامِ لغيرِ الحِجَامهِ، كالفَصْدِ، وحَلْقِ الشَّعْرِ، وتَقْصِيرِه، والخِتَانِ، وقَطْعِ شَىءٍ من الجَسَدِ للحاجةِ إليه، فجائِزٌ؛ لأنَّ قولَ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَسْبُ الحَجَّامِ خَبِيثٌ". يَعْنِى بالحِجَامةِ، كما نَهَى عن مَهْرِ البَغِيِّ، أي في البِغَاءِ. وكذلك لو كَسَبَ بصِنَاعةٍ أخرى، لم يكُنْ خَبِيثًا بغيرِ خِلَافٍ. وهذا النَّهْىُ مخالِفٌ لِلْقِياسِ، فيَخْتَصُّ (١٣) بالمَحلِّ الذي وَرَدَ فيه، ولأنَّ هذه الأُمورَ تَدْعُو الحاجَةُ إليها، ولا تَحْرِيمَ فيها، فجازَتِ الإِجَارَةُ فيها (١٤)، وأخْذُ الأجْرِ عليها، كسائِرِ المنافِعِ المُبَاحةِ.

فصل: ويجوزُ أن يَسْتَأْجِرَ كَحّالًا لِيَكْحَلَ عَيْنَه؛ لأنَّه عَمَلٌ جائِزٌ، ويُمْكِنُ تَسْلِيمُه، ويَحْتاجُ أن يُقَدِّرَ ذلك بالمُدَّةِ؛ لأنَّ العَمَلَ غيرُ مَضْبُوطٍ، فيُقَدَّرُ به، ويَحْتاجُ إلى بَيَانِ قَدْرِ ما يَكْحَلُه مَرَّةً في كلِّ يومٍ أو مَرَّتَيْنِ. فأمَّا إن قَدَّرَها بالبُرْءِ، فقال القاضي: لا يجوزُ؛ لأنَّه غيرُ مَعْلُومٍ. وقال ابنُ أبي موسى: لا بَأْسَ بمُشَارَطَةِ الطَّبِيبِ على البُرْءِ؛ لأنَّ أبا سَعِيد حين رَقَى الرَّجُلَ، شَارَطَه على البُرْءِ (١٥). والصَّحِيحُ إن شاءَ اللهُ أنَّ هذا يجوزُ، لكنْ يكونُ جَعَالةً لا إجَارَةً، فإنَّ الإِجَارَةَ لا بُدَّ فيها من مُدَّةٍ، أو عَمَلٍ مَعْلُومٍ، فأمَّا الجَعَالَةُ، فتجوزُ على عَمَلٍ مَجْهُولٍ، كَرَدِّ اللُّقَطةِ والآبِقِ، وحَدِيثُ


(١٢) في الأصل: "يكره".
(١٣) في ب، م: "مختص".
(١٤) سقط من: ب، م.
(١٥) يأتي الحديث بتمامه وتخريجه في المسألة التالية في صفحة ١٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>