للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خَبِيثًا لم يُعْطِه. ولأنَّها مَنْفَعةٌ مُباحَةٌ، لا يَخْتَصُّ فاعِلُها أن يكونَ من أهْلِ القُرْبَةِ، فجازَ الاسْتِئْجارُ عليها، كالبِنَاءِ والخِيَاطَةِ، ولأنَّ بالناسِ حاجَةً إليها، ولا نَجِدُ كلَّ أحدٍ مُتَبَرِّعًا بها، فجازَ الاسْتِئْجارُ عليها، كالرَّضَاعِ. وقولُ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في كَسْبِ الحَجّامِ: "أطْعِمْهُ رَقِيقَكَ". دَلِيلٌ (٨) على إبَاحَةِ كَسْبِه، إذْ غيرُ جائزٍ أن يُطْعِمَ رَقِيقَه ما يَحْرُمُ أكْلُه، فإنَّ الرَّقِيقَ آدَمِيُّونَ، يحرمُ عليهم أكلُ (٩) ما حَرَّمَهُ اللَّه تعالى، كما يحرمُ على الأحْرارِ، وتَخْصِيصُ ذلك بما أُعْطِيَه من غير اسْتِئْجارٍ تَحَكُّم لا دَلِيلَ عليه، [وتَسْمِيَتُه كَسْبًا] (١٠) خَبِيثًا لا يَلْزَمُ منه التَّحْرِيمُ، فقد سَمَّى النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الثُّومَ والبَصَلَ خَبِيثَيْنِ (١١)، مع إبَاحَتِهِما. وإنَّما كَرِهَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك لِلْحُرِّ تَنْزِيهًا له (٩)؛ لِدَنَاءةِ هذه الصِّناعةِ. وليس عن أحمدَ نَصٌّ في تَحْرِيمِ كَسْبِ الحَجّامِ، ولا الاسْتِئْجَارِ عليها، وإنَّما قال: نحن نُعْطِيه كما أعْطَى النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونقولُ له كما قال النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لمَّا سُئِلَ عن أكْلِه نَهَاهُ، وقال: "اعْلِفْهُ الناضِحَ والرَّقِيقَ". وهذا مَعْنَى كَلَامِه في جَمِيعِ الرِّواياتِ، وليس هذا صَرِيحًا في تَحْرِيمِه، بل فيه دَلِيلٌ على إبَاحَتِه، كما في قولِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وفِعْلِه، على ما بَيَّنَّا، وأنَّ إعْطاءَه لِلحَجّامَ دَلِيلٌ على إبَاحَتِه، إذْ لا يُعْطِيه ما يَحْرُمُ عليه، وهو عليه السلامُ يُعَلِّمُ الناسَ ويَنْهاهُم عن المُحَرَّماتِ، فكيف يُعْطِيهِم إيَّاها، ويُمَكِّنُهم منها، وأمْرُه بإطْعامِ الرَّقِيقِ منها دَلِيلٌ على الإِبَاحةِ، فيَتَعَيَّنُ حَمْلُ نَهْيِه عن أكْلِها على الكَرَاهةِ دُونَ التَّحْرِيمِ. وكذلك قولُ الإِمامِ أحمدَ، فإنَّه لم يَخْرُجْ عن قولِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وفِعْلِه، وإنَّما قَصَدَ اتِّبَاعَه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكذلك سائِرُ من كَرِهَه من الأئِمَّةِ،


(٨) في الأصل: "دل".
(٩) سقط من: م.
(١٠) في الأصل: "وتسمية كسبه".
(١١) أخرجه مسلم، في: باب نهى من أكل ثوما أو بصلا. . ., من كتاب المساجد. صحيح مسلم ١/ ٣٩٦. وأبو داود، في: باب في أكل الثوم، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود ٢/ ٣٢٥. والنسائي، في: باب من يخرج من المسجد، من كتاب المساجد. المجتبى ٢/ ٣٤، ٣٥. وابن ماجه، في: باب من أكل الثوم فلا يقربن المسجد، من كتاب الإِقامة. سنن ابن ماجه ١/ ٣٢٤. والإِمام أحمد، في: المسند ١/ ١٥، ٢٨، ٤/ ١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>