ولهذا لا تُشْرَعُ إِلَّا عندَ تَعذُّرِها، والبَدَلُ يَبْطُلُ بالقُدرةِ على المُبدَلِ، كبُطْلانِ التَّيمُّمِ بالقُدْرةِ على الماءِ، ولا يَبْطُلُ الأصْلُ بالقُدرةِ على البدَلِ، ويَدُلُّ على الفَرْقِ بينهما، أنَّهما حالَ اجْتماعِهما، وإمْكانِ سَماعِهما، تُسْمَعُ البَيِّنَةُ، ويُحْكَمُ بها، ولا تُسْمَعُ اليَمِينُ، ولا يُسْألُ عنها.
فصل: وإِنْ طلَبَ المُدَّعِى حَبْسَ المُدَّعَى عليه، أو إقامةَ كَفيلٍ به إلى أن تَحضُرَ بَيِّنَتُه البَعيدةُ، لم يُقْبَلْ منه، ولم يَكُنْ له مُلازَمةُ خَصْمِه. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّه لم يَثبُتْ له قِبَلَه حَقٌّ يُحْبَسُ به، ولا يُقِيمُ به كَفِيلًا، ولأنَّ الحَبْسَ عَذابٌ، فلا يَلْزَمُ مَعصومًا لم يتَوجَّهْ عليه حقٌّ، ولأنَّه لو جازَ ذلك، لتَمكَّنَ كلُّ ظالمٍ مِن حَبْسٍ مَن شاءَ مِن النَّاسِ بغَيرِ حَقٍّ. وإن كانَتْ بيِّنَتُه قَريبةً، فله مُلازَمتُه حتى يُحْضِرَها؛ لأنَّ ذلك مِن ضَرورةِ إقامَتِها، فإنَّه لو لم يَتمَكَّنْ مِن مُلازَمتِه، لَذَهَبَ مِن مَجلسِ الحاكمِ، ولا تُمْكنُ إقامتُها إِلَّا بحَضْرتِه، ولأنَّه لما تمَكَّنَ مِن إحْضارِه مَجْلِسَ الحاكمِ ليُقِيمَ البَيِّنةَ عليه، تَمكَّنَ مِن مُلازَمتِه فيه حتى تَحْضُرَ البَيِّنَةَ. وتُفارِقُ البَيِّنَةَ البَعيدةَ، أو مَن لا يُمْكِنُ حُضورُها، فإِنَّ إلْزامَه الإِقامةَ إلى حينِ حُضورِها يَحْتاجُ إلى حَبْسٍ، أو ما يَقومُ مَقامَه، ولا سَبِيلَ إليه.
فصل: ولو أقامَ المُدَّعِى شاهِدًا واحدًا، ولم يَحْلِفْ معه، وطلبَ يَمِينَ المُدَّعَى عليه، أحْلِفَ له، ثم إن (٤) أَحضَرَ شاهدًا آخَرَ بعدَ ذلك، كَمَلَتْ بَيِّنتُه، وقُضِىَ بها؛ لما ذكرْنا فى التى قبلَها. وإن قال المُدَّعِى: لى بَيِّنةٌ حاضِرةٌ، وأُريدُ إحْلافَ المُدَّعَى عليه، ثم أقِيمُ البَيِّنَةَ عليه، ففيه وَجْهان؛ أحدُهما، له ذلك، ويَسْتحلِفُ خَصْمَه؛ لأنَّه يَمْلِكُ اسْتِحْلافَه إذا كانت بَيِّنتُهُ بعيدةً، فكذلك إذا كانت قَريبةً؛ ولأنَّه لو قال: لا أُرِيدُ إقامةَ بَيِّنَتِى القَريبةِ. ملَكَ اسْتِحْلافَه، فكذلك إذا أرادَ إقامتَها. الثانى، لا يَمْلِكُ اسْتِحْلافَه؛ لأنَّ فى البَيِّنَةِ غُنْيَةً عن اليَمِينِ، فلم تُشْرعْ معها؛ ولأنَّ البَيِّنَةَ أصلٌ، واليَمِينَ بَدَلٌ، فلا يُجْمَعُ بين البَدلِ والأصلِ، كالتَّيمُّمِ مع الماءِ. وفارَقَ البَعيدةَ، فإنَّها فى الحالِ كالمُعْدومَةِ للعَجْزِ عنها، وكذلك التى لا يريدُ إقامتَها؛ لأنَّه قد تكونُ عَليه مَشقَّةٌ فى إحْضارِها، أو عليه فى الحضورِ مَشَقَّةٌ، فيَسْقطُ ذلك للمَشقَّةِ، بخلافِ التى يُريدُ إقامتَها.