للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكيف يجوزُ تَرْكُ نَصِّ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وصَرِيحِ قوله بقِيَاسِ نَصِّه في مَوْضِعٍ آخَر! على أنَّ الإِبِلَ تُفَارِقُ الغَنَمَ، لِضَعْفِها، وقِلَّةِ صَبْرِها عن الماءِ.

فصل: فإن كانت الصُّيُودُ مُسْتَوْحِشَةً، إذا تُرِكَتْ رَجَعَتْ إلى الصَّحْرَاءِ، وعَجَزَ عنها صاحِبُها، جازَ الْتِقاطُها؛ لأنَّ تَرْكَها أضْيَعُ لها من سائِر الأموالِ، والمَقْصُودُ حِفْظُها لِصَاحبِها، لا حِفْظُها في نَفْسِها، ولو كان المَقْصُودُ حِفْظَها في أنْفُسِها لَما جازَ الْتِقاطُ الأَثْمانِ، فإنَّ الدِّينارَ دِينارٌ حيثما كان.

فصل: والبَقَرةُ كالإِبِلِ. نَصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ الشافِعِيِّ، وأبى عُبَيْدٍ. وحُكِى عن مالِكٍ أنَّ البَقَرةَ كالشَّاةِ. ولَنا، خَبَرُ جَرِيرٍ فإنه طَرَدَ البَقَرةَ ولم يَأْخُذْها، ولأنَّها تَمْتَنِعُ عن صِغَارِ السِّباعِ، وتُجْزِىءُ في الأُضحِيَةِ والهَدْىِ عن سَبْعَةٍ، فأشْبَهَتِ الإِبِلَ. وكذا الحُكْمُ في الخَيْلِ والبِغَالِ. فأمَّا الحُمُرُ، فجَعَلَها أصْحابُنا من هذا القِسْمِ الذي لا يجوزُ الْتِقَاطُه؛ لأنَّ لها أجْسامًا كبيرةً (٦) عَظِيمةً، فأشْبَهَتِ البِغَالَ والخَيْلَ، ولأنَّها من الدّوَابِّ، فأشْبَهَتِ البِغَالَ. والأَوْلَى إلْحاقُها بالشَّاةِ؛ لأنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَّلَ الإِبِلَ بأنَّ معها حِذَاءَها وسِقَاءَها. يُرِيدُ شِدَّةَ صَبْرِها عن الماءِ؛ لِكَثْرَةِ ما تُوعِى في بُطُونِها منه، وقُوَّتِها على وُرُودِه، وفى إباحَةِ ضَالَّةِ الغَنَمِ بأنَّها مُعَرَّضَةٌ لأخْذِ الذِّئْبِ إيَّاها، بقوله: "هِىَ لَكَ، أو لِأَخِيكَ، أو لِلذِّئْبِ" (٧). والحُمُرُ مُسَاوِيةٌ للشَّاةِ في عِلَّتِها، فإنَّها لا تَمْتَنِعُ من الذِّئْبِ، ومُفَارِقَةٌ للإبِلِ في عِلتِها، فإنَّها لا صَبْرَ لها عن الماءِ، ولهذا يُضْرَبُ المَثَلُ بِقِلَّةِ صَبْرِهَا عنه، فيقال: ما بَقِىَ من مُدَّتِه (٨) إلَّا ظِمْءُ (٩) حِمَارٍ. وإلْحاقُ الشىءِ بما سَاوَاه في عِلَّةِ الحُكْمِ وفَارَقَهُ في الصُّورَةِ، أَوْلَى من إلْحاقِه بما قَارَبَهُ في الصُّورَةِ وفارَقَهُ في العِلَّةِ. فأمَّا غيرُ الحَيَوانِ، فما كان منه يَنْحَفِظُ بِنَفْسِه، كأحْجارِ


(٦) سقط من م.
(٧) تقدم تخريجه في صفحة ٢٩٠.
(٨) في م: "مدتها".
(٩) الظمء: ما بين الشربتين.

<<  <  ج: ص:  >  >>