فماتَ أحَدُهُما بعدَ الإِذْنِ في القَبْضِ، بَطَلَ الإِذنُ، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّ المَيِّتَ إن كان هو الواهِبَ فقد انْتَقَلَ حَقُّه في الرُّجُوعِ في الهِبَةِ إلى وارِثِه، فلم يَلْزَمْ بغيرِ إذْنِه. وإن كان المَوْهُوبَ له، فلم يُوجَد الإِذْنُ لِوَارِثِه، فلم يَمْلِكِ القَبْضَ بغيرِ إذْنٍ.
فصل: وإن وَهَبَه شيئًا في يَدِ المُتَّهِبِ، كوَدِيعَةٍ، أو مَغْصُوبٍ، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ أنَّ الهِبةَ تَلْزَمُ من غيرِ قَبْضٍ، ولا مُضِىِّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى القَبْضُ فيها؛ فإنَّه قال في رِوَايةِ ابنِ منصورٍ: إذا وَهَبَ لِامْرَأتِه شيئا ولم تَقْبِضْه، فليس بينه وبينها خِيَارٌ، هي معه في البَيْتِ. فظاهِرُ هذا أنَّه لم يَعْتَبِرْ قَبْضًا، ولا مُضِىَّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى فيها، لكَوْنِها معه في البَيْتِ، فيَدُها على ما فيه. وقال القاضي: لا بُدَّ من مُضِىِّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى فيها القَبْضُ. وقد رُوِىَ عن أحمدَ، رِوَايةٌ أخْرى، أنَّه يَفْتَقِرُ إلى إذْنٍ في القَبْضِ. وقد مَضَى تَعْلِيلُ ذلك وتَفْصِيلُه في الرَّهْنِ. ومذهبُ الشافِعىِّ كمَذْهَبِنا، في الاخْتِلَافِ في اعْتِبارِ الإِذْنِ، واعْتِبارِ مُضِىِّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى القَبْضُ فيها.
يعني أنَّ غيرَ المَكِيلِ والمَوْزُونِ تَلْزَمُ الهِبَةُ فيه بمُجَرَّدِ العَقْدِ، ويَثْبُتُ المِلْكُ في المَوْهُوبِ قبلَ قَبْضِه. ورُوِى ذلك عن عليٍّ وابن مسعودٍ، رَضِىَ اللَّه عنهما [فإنَّه يُرْوَى عنهما](١) أنَّهما قالا: الهِبَةٌ جائِزَةٌ إذا كانت مَعْلُومةً، قُبِضَتْ أو لم تُقْبَضْ. وهو قولُ مالِكٍ، وأبي ثَوْرٍ. وعن أحمدَ، رِوَايةٌ أخرى: لا تَلْزَمُ الهِبَةُ في الجَمِيع إلَّا بالقَبْضِ. وهو قولُ أكْثَر أهْلِ العِلْمِ. قال المَرُّوذِىُّ: اتَّفَقَ أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعلىٌّ، على أنَّ الهِبَةَ لا تجوزُ إلَّا مَقْبُوضَةً. ويُرْوَى ذلك عن النَّخَعِىِّ، والثَّوْرِىِّ، والحَسَنِ بن صالحٍ، والعَنْبَرِىِّ، والشافِعِىِّ، وأصْحابِ الرَّأْىِ، لما ذَكَرْنا في المَسْألةِ